( رثاء القيـــــروان )
.
بقلم د . فالح الكيلاني
.
القيروان مدينة بشمال افريقيا وبالتحديد في تونس الخضراء ، بناها عقبة بن نافع الصحابي، رضي الله عنه بعد الفتح الاسلامي .
.
وإفريقية سميت باسم (إفريقين بن قيس بن صيفي الحميري)، وهو الذي فتح إفريقية في الفتح الاسلامي فسميت باسمه وقتل ملكها جرجير، وسمي شعبها (البربر ) فقيل لهم: ما أكثر بربرتكم ويقال ايضا : إفريقس..
.
اما القيروان فلغة: تعني القافلة، وهو اعجمي معرب، وقيل: ان قافلة نزلت بذات المكان، ثم بنيت المدينة في موضع نزول القافلة فسميت باسمها، و وكذلك هو اسم للجيش أيضا، والقيروان بفتح الراء معناها الجيش، وبضم الراء تعني القافلة..
.
القيروان مدينة عامرة في أوج عظمتها وقمّة حضارتها، كانت تزخر بالعديد من العلماء والأدباء والشعراء من أمثال محمد بن جعفر النّحوي المعروف بالقزّاز (412هـ) و وابي اسحاق إبراهيم الحصري (453هـ ) صاحب زهر الآداب، وأبي الحسن علي بن عبد الغني الحصري الضرير (480هـ)،
وغيرهم.
.
كان بلاط المعزّ بن باديس يرفل بالعلماء والأدباء، وكان من بينهم ابن رشيق القيرواني (456هـ) وابن شرف القيرواني (460هـ) اللّذان حازا إعجاب المعزّ بن باديس، وحظيا بعنايته، واهتمامه وكانا مقدّمين عنده على سائر العلماء والادباء من في حضرته وكانت هذه المكانة تثير بينهما عوامل المنافسة والتحدي، فتنافسا وتنافرا حتى تهاجيا بينهما ولم يتصالحا إلا في بجزيرة صقلية بعد ان فرّ الشاعران بعد نكبة القيروان، وعاشا معا فترة من الزمن فغادرها ابن شرف إلى الأندلس الى ان توفي فيها سنة ستين وأربعمائة للهجرة (460هـ) بمدينة إشبيلية، وبقي ابن رشيق في صقلية حتى وافته منيته على أرضها سنة ست وخمسين وأربعمائة (456هـ) .
.
القيروان بعد هذا العز وهذه المكانة في ظل حاكمها العظيم المعز ابن باديس وشعرائها المذكورين اعلاه قد هجم عليها الهلاليون وهم اقوام من صعيد مصر وما اليها عام \ 449 هجرية فتقدموا اليها محاربين فاحتلوها وخربوها كما خربت البصرة العراقية على ايدي القرامطة الوافدين اليها من البحرين وشرق الجزيرة العربية واحرقوها .
نهبت المدينة واخترقت حتى اصبحت اثرا بعد عين فالضطر الشعراء والعلماء من الفرار منها الى بلاد اخرى فتفرقوا في البلاد والامصار لكنهم غرسوا اثرا رائعا بقي خالدا على مدى الدهر فقد رثوها رثاءا مرا وبينوا ما مقع على القيروان تلك المدينة الخالدة والناعمة في ظل الجمال والانس و الثقافة والعلم والادب .
.
فالشاعر ابو الفضل جعفر بن محمد بن أبي سعيد بن شرف، الجذامي القيرواني ( المتوفي 460هـ) فقد بكى مدينته بشعر رقيق، وموهبة شعرية، وقدرة فنية على قول الشعر وخوض غماره في مهارة وبراعة، ومما وصلنا من شعره في بكاء القيروان، قصيدته اللاّمية التي يصف فيها جالية القيروان بمدينة سوسة، وما أصابها من مهانة واحتقار ، إثر فرارهم بعد نكبة مدينتهم، فيقول:
آهِ لِلْقَــيروانِ! أَنَّةَ شَجْرٍ
عن فؤادٍ بجاحِمِ الحُزْنِ يَصْلَى
حين عادتْ به الديارُ قُبُوراً
بل أقول: الدّيارُ منهنَّ أَخْلَى
ثُمَّ لا شمعةٌ سِوَى أنجمٍ تخـ
طوا على أُفْقِها نَواعِسَ كَسْلَى
بَعْد زُهْرِ الشِّماعِ تُوقَدُ وَقْداً
ومِتانِ الذُّبالِ تُقْتَلُ فَتْلا
والوُجوهُ الحِسانُ أَشْرقُ مِنْهُنَّ
وتَفْضُلْنَهُنَّ مَعْنىً وشَكْلا
بَعْد يومٍ كأنما حُشِرَ الخَلْـ
قُ حُفاةً به، عَوارِيَ، رَجْلَى
ولهمْ زحَمْةٌ هنالك تحكي
زحمةَ الحَشْرِ والصَّحائفُ تُتْلَى
مِنْ أَيامَى وَراءهُنَّ يتامى
مُلِئوا حَسْرةً وشَجْواً وثُكْلا
وحَصانٍ كَأَنَّها الشمسُ حُسْناً
كَفَّنَتْها الأَطْمارُ نَجْلاءَ كَحْلا
فالقصيدة ثلاثة وثلاثون بيتاً، لكنها تعد من عيون الشّعر العربي في هذا الفنّ، من حيث دقّة تصوير ما أصاب القيروانيين من ذلّ وهوان أثناء تعرّض مدينتهم للاقتحام من قبل الغزاة.
وله قصائد ومقطوعات أخرى في ندب هذه المدينة والحنين إليها، فيقول:
يا قيروانُ وَدِدْتُ أَنِّي طائِرُ
فأَراكِ رؤيةَ باحثٍ مُتأَصِّلِ
آهاً وأَيةُ آهَةٍ تَشْفِي جَوَى
قَلْبٍ بِنيرانِ الصَّبابَةِ مُصْلَي
أَبدَتْ مفاتيحُ الخطوبِ عَجائباً
كانتْ كوامِنَ تحتَ غَيْب مُقفَلِ
اما صديقه ابن رشيق القيرواني فقد بكى مدينته القيروان في قصيدة نونية طويلة يقول فيها:
كَمْ كانَ فيها مِن كِرامٍ سادةٍ
بِيضِ الوجوهِ شَوامِخِ الإِيمانِ
مُتعاوِنينَ على الديانَةِ، والتُّقَى
للهِ في الإِسْرارِ والإِعلانِ
وأئمةٍ جَمَعُوا العلومَ وهَذَّبوا
سُنَنَ الحديثِ ومُشْكِلَ القُرآنِ
عُلماءٌ إنْ ساءَلْتَهُم كَشَفوا
العَمَى بفَقاهَةٍ وفَصاحَةٍ وبَيانِ
وإذا دجى الليل البهيمُ رأيْتَهُمْ
مُتَبتِّلِينَ تَبَتُّلَ الرُّهْبانِ
كانَتْ تُعَدُّ القَيْروانُ بِهِمْ إذا
عدّ المنابر زَهْرَةَ البُلُدانِ
وزَهَتْ على مَصْرٍ وحُقَّ لها،
كما تَزْهو بِهِمْ، وعَدَتْ على بَغْدانِ
حَسُنَتْ فلمَّا أنْ تكامَلَ حُسْنُها
وسَمَا إليها كُلُّ طَرْفٍ رانِ
وتَجمَّعَتْ فيها الفضائِلُ كُلُّها
وغَدَتْ مَحَلَّ الأَمَنِ والإِيمانِ
نَظرَتْ لها الأَيامُ نظرةَ كاشِحٍ
تَرْنُو بنظرةِ كاشِحٍ مِعْيانِ
حتَّى إذا الأقدارُ حُمَّ وُقوعُها
ودَنا القَضاءُ لِمُدَّةٍ وأَوانِ
مَصائِبٍ من فادِعٍ أو شائِبٍ
مِنَّنْ تجمَّعَ من بني دَهْمانِ
فَتَكَوا بأُمَّةِ أَحْمَدٍ أَتُراهُمُ
أَمِنوا عقابَ اللهِ في رَمَضان؟
نقضوا العهودَ المُبْرَماتِ وأَخْفَروا
ذِمَمَ الإلهِ، ولم يَفُوا بَضَمانِ
فاستحسنوا غَدْرَ الجَوارِ وأثَرُوا
سَبْيَ الحريمِ وكَشْفَةَ النِّسوانِ
ساموهُمُ سُوءَ العَذابِ وأَظْهَروا
مُتعسِّفِين َ كَوامِنَ الأَضْعانِ
يَسْتَصْرِخونَ فلا يُغاثُ صَرِيخُهُمْ
حتَّى إذا سَئِموا مِنَ الإِرنْانِ
فادُوا نفوسَهُمُ فلمَّا أنفْدوا
ما جَمَّعوا مِنْ صامِتٍ وصُوانِ
واسْتَخْلَصوا مِن جَوْهَرٍ ومَلابِسٍ
وطَرائِفٍ وذَخائِرٍ وأَواني
خَرَجوا حُفاةً عائذينَ بربِّهِمْ
مِنْ خَوْفِهمْ ومصَائِبِ الألْوانِ
هَرَبُوا بكُلِّ وَلِيدَةٍ وفَطِيمَةٍ
وبِكُلُّ أَرْمَلَةٍ وكُلِّ حَصَانِ
وبِكُلِّ بِكْرٍ كالمَهاةِ عَزِيزةٍ
تَسْبِي العُقولَ بطَرْفِها الفَتَانِ
خَوْدٍ مُبَتَّلَةِ الوِشاحِ كأَنَّها
قَمَرٌ يلوحُ على قَضِيبِ الْبَانِ
والمَسْجِدُ المعمورُ جامِعُ عَقْبةٍ
خَرِبُ المَعاطِنِ مُظلمُ الأرْكانِ
قَفْرٌ فما تَغْشاهُ بَعْدُ جَماعَةٌ
لِصَلاةِ خَمْسٍ لا ولا لأَذانِ
بَيْتٌ بَوَحيِ اللهِ كانَ بناؤه
نِعْمَ البنا والمبتنى والباني
أَعْظِمْ بِتلكَ مُصِيبةً ما تَنْجَلي
حَسَراتُها أو يَنْقَضي المَلَوانِ
حزنَتْ لها كُوَرُ العراقِ بأَسْرِها
وقُرَى الشَّآمِ ومِصْرَ والخُرَاسانِ
وتَزعزعَتْ لمُصابِها وتَنَكَّدَتْ
أَسفاً بِلادُ الهِنْدِ والسِّنْدانِ
وعَفا من الأقطارِ بَعْد خَلائِها
ما بَيْنَ أَنْدَلُسٍ إلى حُلْوانِ
ولم يقف الحزن على القيروان عند الإنسان عند ابن رشيق بل تجاوزه إلى الطبيعة ، فالنّجوم الزّاهرة، والشّمس والقمر، واللّيل والنهار، والجبال، والأرض، قد اهتزّت جميعها لمصاب القيروان، يقول:
وأرى النّجوم طلَعْنَ غيرَ زَواهِرٍ
في أُفْقِهِنَّ وأَظْلَمَ القَمَران
وأَرى الجِبالَ الشُّمَّ أَمسَتْ خَشَّعاً
لَمُصابِها وتَزَعْزَع الثَّقَلانِ
ويختم قصيدته بالتساؤل والتمني هل تعود القيروان إلى سابق مجدها وعزّها ولكن كيف السّبيل إلى ذلك، بعدما لعب الزّمان بأهلها، وسلبتها الأيام حسنها وجمالها؟ فيقول:
أترى اللّيالي بعدما صنَعَتْ بنا
تقضي لنا بتَواصُلٍ وتَدانِ؟
وتُعيدُ أرضَ القيروانِ كعَهدْهِا
فيما مضى مِن سالِفِ الأزمانِ
أمسَتْ وقد لَعِبَ الزّمانُ بأهلِها
وتقَطَّعتْ بِهِمُ عُرَى الأَقْرانِ
فتفَرَّقوا أَيْدِي سَباً وتَشتَّتوا
بَعْد اجتماعِهِمُ على الأَوْطانِ
هذه المقاطع من نونية ابن رشيق في بكاء القيروان، وهي قصيدة طويلة بلغت خمسة وخمسين بيتاً، و صوّر لنا فيها النكبة تصويراً دقيقاً، كما وصف حال المدينة في أيّام عزّها ومجدها وما آلت إليه بعد اقتحامها، جاء كل ذلك بأسلوب عربي مبين، على الرغم مما تسرّب إليه من جمل مضطربة ركيكة أحياناً، أمّا عاطفته فصادقة لأنّه من أهل المدينة الذين شُردوا وأُبعدوا عن ديارهم فجاءت زاخرة بعواطفه الحزينة تنبثق من قلب يقطر ألماً وأسى على ما حلّ بمدينته الجميلة من دمار وخراب…
أبو الحسن الحصري القيرواني، صاحب القصيدة الشّهيرة التي مطلعها:
يا لَيْل الصَّبّ متى غَدُهُ أَقيامُ السّاعةِ مَوْعِدُهُ
الشاعر الضرير ابو الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني ولد في حدود سنة عشرين وأربعمائة (420) للهجرة بالقيروان، وفيها قضى شبابه، أي: نحو ثلاثين سنة من عمره، فاضطرته نكبة القيروان إلى الهجرة من وطنه رغم عماه وفقدانه البصر كما فعل الشّاعران السّابقان ابن رشيق وابن شرف من قبل، والتجأ إلى سبتة واستقرّ بها يدرّس علم القراءات ثم اجتاز إلى الأندلس، واتّصل ببني عَبّاد في إشبيلية ومدحهم، ثم انتقل بين عواصم ملوك الطّوائف، وأخيراً حلّ بمدينة طنجة، وبها توفي سنة ثمان وثمانين وأربعمئة للهجرة (488هـ )
وقد آلمته نكبة القيروان كبقيّة شعراء عصره، فندبها بقصيدة طويلة اقتطف منها هذه الأبيات فيقول :
مَوتُ الكرامِ حياةٌ في مَواطِنِهُمْ
فإن هُمُ اغتربوا ماتُوا ما ماتوا
يا أَهْلُ وُدِّيَ لا واللهِ ما انْتَكَثَتْ
عندي عُهودٌ ولا ضاقَتْ مَوَدَّاتُ
لئنْ بَعُدْتُمْ وحالَ البحرُ دونَكُمُ
لَبَيْنَ أرواحِنا في النثُّورِ زَوْراتُ
ما نِمْتُ إلاَّ لكِيْ أَلقَى خَيالَكُمُ
وأَيْنَ مِن نازِحِ الأَوْطانِ نَوْماتُ
أَصْبَحتُ في غُرْبتِي لولا مُكاتَمَتي
بَكَتْنِيَ الأرضُ فيها والسَّماواتُ
كأَنَّني لم أَذُقْ بالقَيْروانِ جَنىً
ولم أَقُلْها لأَحْبابي ولا هَاتُوا
ألا سَقَى اللهُ أرضَ القَيْروانِ
حَياً كأنَّه عَبَراتِي المُسْهِلاَّتُ
وبكى القيروان بعد نكبتها الشّاعر عبد الكريم بن فضال القيرواني، فقال:
كيفَ قَيْروانُ حالُكِ لمَّا
نَثَر البَيْنُ سِلْكَكِ المَنْظوما
كنتِ أمَّ البلادِ شرقاً وغرباً
فمحا الدهرُ وَشْيَكِ المَرْقوما
وقبل ان اختم بحثي اود ان اوضح ان رثاء المدن بعد هذه الحادثة اصبح فنا شعريا رائقا في الشعر العربي وخاصة في بلاد الاندلس والمغرب العربي ثم امتد التيا ر ليشمل مدن امتنا العربية في كل مكان .
.
امير البيـــــــان العربي
د.فالح نصيف الحجية الكيلاني