هواجس
قصة قصيرة
بقلم\ محمد فتحي المقداد
بقلم\ محمد فتحي المقداد
وجهه ممتقع تلاشت عنه حيويّته المعهودة في الفترة الأخيرة، ساءني ما رأيت من اختلاف حاله، ريبةٌ ما، داخَلَتني عندما ألقيتُ عليه التحيّة، أفزعني منظره، وأحالني إلى حزمة أسئلة متتالية ألهبت نفسي، ما إن أفرغ من إحداها حتّى يأتيني ما هو أفظع من سابقه، فيثير لديّ هواجس تتعالى في نفسي لتزاحم همومها الكامنة فيها منذ زمان.
بصوت خفيض، ردّ فيصل تحيّتي: "وعليكم السلام".
جفّ لساني كحطبة يابسة تنتظر نهايتها في الموقد؛ لصدّ هجمات البرد القاسية، شدٌّ عصبيّ لم أتنبّه له، أسناني تصطّك أعلاها على أسفلها بقوّة، صريرها مسموع لصديقي أحمد الجالس على كرسي الحلّاق -الذي هو أنا-، مال برأسه نحوي بعد استغلاله لحظة توقّفتُ فيها عن قصّ الشّعر.
- ليبادرني بسؤاله: "ما بك يا رجل؟".
- بصراحة لا أدري، أنا غائبٌ عن المكان هذا كُلّه.
- صريرُ أسنانك نبّهني من غفلتي عندما تائهًا غائصًا في أغوار عوالم ذكرياتي.
صرير عجلات سيارة عابرة مسرعة شقّ صمت عزلتنا في الصّالون، ترافق مع زعيق امرأة تضرب وجهها بلهفة غير مألوفة على طفلها الذي أفلت من يدها، على بُعد متر منه توقّفت السيّارة جامدة في مكانها، وجه السائق ممتقعٌ باصفرار الموت المرتسم على وجوه المحتضرين، الأمّ سقطت أرضًا، لم تحتمل موت ابنها أمام عينيها، كما اعتقدت للوهلة الأولى.
اندفعت السيارة بسرعة لإسعافها للمشفى، بعد أن حملها من تجمهر في المكان، انفضّت الجموع وعادت حركة الطريق إلى طبيعتها، صراخ الطفل المنسيّ لم ينقطع على غياب أمّه المغمى عليها.
هدأت العاصفة، عاودتُ متابعة عملي، إشارة إحدى الفضائيّات تُعلن عن بدء موسمها الإخباري المسائيّ، يطلّ مذيع متجهّم الوجه، أضواء «الأستوديو» تنعكس على صلعته، فيرتدُّ وميضها على عينيّ، عاودت للزبون أحمد، انفعالاته أخذت شكل السبّ و الشّم، بقوله: لعن الله الحرب ويومها، منذ ثلاث سنوات قاطعت القنوات الإخباريّة على اختلاف انتماءاتها، فيما سبق لم يكن لِتَفوتني نشرة أخبار إلا لظرف قاهر.
استفزّني بكلامه، و أردفت: زيادة على مقاطعتي للأخبار مثلك، أنصح جميع زبائني بمقاطعة المحطّات الإخبارية على مختلف انتماءاتها، الأخبار تجلبُ وجع الرأس و القلب، وأعرف الكثيرين ممن أصيبوا بالجلطات، خاصة ممن كانوا يشاهدون التلفاز أثناء قصف بيوتهم وموت أسرهم التي كانت تقيم في هناك، فقضوا نَحبَهُم على الفور.
فيصل ما زال جالسًا لم يتزحزح، حانت منّي التفاتة إلى وجهه، خطوط وتعرّجات جبينه المتغضّن بخطوطها المتوازية، أخذتني مجدّدا إلى عوالم بعيدة عن خصوصية المكان الحميمية، خانتني الكلمات وفقدت السيطرة على استحضارها، لأتابع الاستفسار عن حالته الصحيّة، منذ فترة سمعت من نادر الصديق المشترك بيننا، أن الطبيب أخبره عن فتحة في قحف رأسه نتيجة تصويره بأشعّة (الجاما).
الصالون محدود بمساحته المتوسّطة، في هذه اللّحظة داهمني شعور غريب، استولى على مشاعري بقوّة طاغية، أقنعني بمسافات تباعدت كما الشّرق و الغرب على حوّاف الكون، لزمت هواجسي لفترة صمت تام تناسق مع صمت سيطر على المكان.
بصوت خفيض، ردّ فيصل تحيّتي: "وعليكم السلام".
جفّ لساني كحطبة يابسة تنتظر نهايتها في الموقد؛ لصدّ هجمات البرد القاسية، شدٌّ عصبيّ لم أتنبّه له، أسناني تصطّك أعلاها على أسفلها بقوّة، صريرها مسموع لصديقي أحمد الجالس على كرسي الحلّاق -الذي هو أنا-، مال برأسه نحوي بعد استغلاله لحظة توقّفتُ فيها عن قصّ الشّعر.
- ليبادرني بسؤاله: "ما بك يا رجل؟".
- بصراحة لا أدري، أنا غائبٌ عن المكان هذا كُلّه.
- صريرُ أسنانك نبّهني من غفلتي عندما تائهًا غائصًا في أغوار عوالم ذكرياتي.
صرير عجلات سيارة عابرة مسرعة شقّ صمت عزلتنا في الصّالون، ترافق مع زعيق امرأة تضرب وجهها بلهفة غير مألوفة على طفلها الذي أفلت من يدها، على بُعد متر منه توقّفت السيّارة جامدة في مكانها، وجه السائق ممتقعٌ باصفرار الموت المرتسم على وجوه المحتضرين، الأمّ سقطت أرضًا، لم تحتمل موت ابنها أمام عينيها، كما اعتقدت للوهلة الأولى.
اندفعت السيارة بسرعة لإسعافها للمشفى، بعد أن حملها من تجمهر في المكان، انفضّت الجموع وعادت حركة الطريق إلى طبيعتها، صراخ الطفل المنسيّ لم ينقطع على غياب أمّه المغمى عليها.
هدأت العاصفة، عاودتُ متابعة عملي، إشارة إحدى الفضائيّات تُعلن عن بدء موسمها الإخباري المسائيّ، يطلّ مذيع متجهّم الوجه، أضواء «الأستوديو» تنعكس على صلعته، فيرتدُّ وميضها على عينيّ، عاودت للزبون أحمد، انفعالاته أخذت شكل السبّ و الشّم، بقوله: لعن الله الحرب ويومها، منذ ثلاث سنوات قاطعت القنوات الإخباريّة على اختلاف انتماءاتها، فيما سبق لم يكن لِتَفوتني نشرة أخبار إلا لظرف قاهر.
استفزّني بكلامه، و أردفت: زيادة على مقاطعتي للأخبار مثلك، أنصح جميع زبائني بمقاطعة المحطّات الإخبارية على مختلف انتماءاتها، الأخبار تجلبُ وجع الرأس و القلب، وأعرف الكثيرين ممن أصيبوا بالجلطات، خاصة ممن كانوا يشاهدون التلفاز أثناء قصف بيوتهم وموت أسرهم التي كانت تقيم في هناك، فقضوا نَحبَهُم على الفور.
فيصل ما زال جالسًا لم يتزحزح، حانت منّي التفاتة إلى وجهه، خطوط وتعرّجات جبينه المتغضّن بخطوطها المتوازية، أخذتني مجدّدا إلى عوالم بعيدة عن خصوصية المكان الحميمية، خانتني الكلمات وفقدت السيطرة على استحضارها، لأتابع الاستفسار عن حالته الصحيّة، منذ فترة سمعت من نادر الصديق المشترك بيننا، أن الطبيب أخبره عن فتحة في قحف رأسه نتيجة تصويره بأشعّة (الجاما).
الصالون محدود بمساحته المتوسّطة، في هذه اللّحظة داهمني شعور غريب، استولى على مشاعري بقوّة طاغية، أقنعني بمسافات تباعدت كما الشّرق و الغرب على حوّاف الكون، لزمت هواجسي لفترة صمت تام تناسق مع صمت سيطر على المكان.
عمّان \ الأردن
12 – 2 - 2017
12 – 2 - 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق