الاثنين، 5 ديسمبر 2016

نازك الملائكة وقضايا الشعر المعاصر .. نشر عنها الاديب الكبير أستاذي / يوسف الصبحات

نازك الملائكة وقضايا الشعر المعاصر
في مقدمتها للطبعة الخامسة لكتابها " قضايا الشعر المعاصر " تضيف نازك بعضا من الآراء التي أفرزها عامل الزمن بعد اثنتي عشرة سنة من وضعها قواعد الشعر الحر. وحفزها المد العظيم من القصائد الحرة الذي غمر العالم العربي .
وهي تعيد صياغة بعض القواعد التي وضعتها في بداية مسيرتها النقدية حيث تبدو بالنسبة لها تحمل شيئا من التزمت لأن في سمعها الموسيقى تطور .[1]
وتضيف ( أقول كل هذا مع أن اغلب القواعد التي وضعتها عام 1926م ، مازالت جارية والشعراء يستعملونها في قصائدهم، وكل ماأحتاج الآن أن أضع الهوامش على ذلك القانون الأول ، وأستثني منه بعض الحالات معتمدا على ثلاثة منابع : معرفتي للعروض العربي ، واطلاعي المستمر على قصائد زملائي الشعراء واعتمادي على سمعي ) [2]
وتذهب في مبحث الشعر الحر والتراث ، إلى البحث في جذور الشعر العربي عن بدايات لشعر التفعيلة ، فتنقل أفكار عبدالكريم الدجيلي التي أوردها في كتابه "البند في الأدب العربي تاريخه ونصوصه" وكشف عن وجود قصائد من هذا النوع تنسب إلى ابن دريد في القرن الرابع الهجري، مع أن الباحث لم يجزم أنها من الشعر الحر ورفض الباقلاني نسبة هذه القصيدة لابن دريد ، ونازك توافق الباقلاني الرفض لأسباب منها : أن ابن دريد حطم استقلال البيت العربي باستعماله التضمين ، وخرج على قانون تساوي الأشطر في القصيدة الواحدة، ونبذ القافية نبذا تاماً) [3]
وترى نازك ( أن أعظم ارهاص بالشعر الحر هو مايعرف بالبند ، لابل إن هذا البند هو نفسه شعر حرّ للأسباب التالية :
1. لأنه شعر تفعيلة .
2. لأن الأشطر فيه غير متساوية الطول .
3. لأن القافية فيه غير موحدة . )[4]
وتتسأل هل أخذت هي أو السياب فكرة الشعر الحرّ من البند ؟ لكنها تستبعد هذه الفكرة فتقول : ( فمن المستبعد عندي أن يكون السياب قد أتيح له عام 1964م أن يسمع بالبند ، لأنني أنا نفسي على قوة معرفتي بالتراث العربي لم أتعرف إليه قبل سنة 1953م بعد نظمي لأول قصيدة حرة بست سنوات ، ، وعلى هذا لايكون الشعر الحر حفيدا للبند وإن كان بينهما هذا الشبه الكبير ) [5]
بدايات الشعر الحر
تسعى نازك لإيجاد العذر لنفسها حين لم تذكر القصائد التي نشرت منذ 1932م ، معللة ذلك بعدم اطلاعها على تلك القصائد التي كتبها علي باكثير ، ومحمد فريد أبي حديد ، ولويس عوض وآخرون . وتشير أن أحمد مطلوب أورد في كتابه " النقد الأدبي الحديث في العراق " قصيدة من الشعر الحر نشرت عام 1921م . ([6])
وتتسأل هل نستطيع أن نحكم أن حركة الشعر الحر بدأت في العراق سنة 1921م ؟ أو أنها بدأت في مصر عام 1932م ؟ وتقول : ( الواقع أننا لانستطيع ، والذي يبدو لي أن هناك أربعة شروط ينبغي أن تتوفر لكي نعتبر قصيدة ما هي بداية هذه الحركة وهي :
1. أن يكون الناظم واعيا أن استحدث بقصيدته أسلوبا وزنيا جديدا ، سيكون مثيرا للجمهور.
2. أن يقدم الشاعر قصيدته مصحوبة بدعوة إلى استعمال هذا اللون في جرأة وثقة ، شارحا الأساس العروضي لما يدعو إليه .
3. أن ثير دعوته صدا لدى النقاد والقراء .
4. أن يستجيب الشعراء للدعوة ويبدأوا باستعمال اللون الجديد ، وتكون الاستجابة على نطاق واسع من العالم العربي . ([7])
وتلاحظ معي أن هذه الشروط انطلقت فيها نازك من قوانين تخدم أسبقيتها للظهور بقصيدة التفعيلة ، لذا فهي تعتبر تلك القصائد قبل عام 1947م "ارهاصات " تتنبأ بقرب ظهور حركة الشعر الحر. ولعل العصر نفسه لم يكن مهيأ حتى ظهر ديوانها " شظايا ورماد " 1949م ، وفيه الدعوة الواضحة الى الشعر الحر . ([8])
وترد على النقاد الذين زعموا أنها كانت تعلم بتلك القصائد لكنها تعمدت اغفالها ... معللة سبب اندفاعها للتجديد في الشعر العربي بأن راجع الى أمرين: أحدهما معرفتها بالعروض العربي، وثانيهما : قراءتها للشعر الإنجليزي ، وهي مقتنعة أنها و لم تبدأ حركة التجديد ، هي أو شاكر السياب لبدأ بها آخرون . ([9])
ونتجاوز حديثها في تلك المقدمة عن بحور الشعر الحرّ ، والجمع بين التشكيلات غير المتجانسة ، لنطالع حديثها في ختام المقدمة حين تقول : ( لعل القواعد التي قبلتها الآن ستتطور على أيدي شعراء آخرين يأتون بعدنا ، وكل ماأتمنى أن يسلح الشعراء أنفسهم بكثرة القراءة للشعر السليم الخالي من الأخطاء العروضية وأن يكفوا عن الخروج على الوزن مرارا عبر الكثير من قصائدهم . ([10])
وتعتبر نازك القواعد التي وضعتها للشعر الحرّ مابين سنة 1949م و1926م مازالت صحيحة لاغلط فيها ، وتضيف بأن الحواشي التي وضعتها في الطبعات اللاحقة للكتاب لاتدل على "التراجع" أو " النكوص " عن قانونها السابق لأنه كان مغلوطا ، فلإن هذا الحكم ليس صحيحا ولاواردا . ([11])
بداية الشعر الحر وظروفه
في الفصل الأول تحدثت نازك عن بداية الشعر الحر وظروفه، فذكرت أن بدايةالشعر الحر كانت عام ١٩٤٧ م في العراق. ومن العراق انتشر هذا الضرب الجديدمن الشعر في أرجاء الوطن العربي كافة. وأول قصيدة من الشعر الحر نظمتها نازككان عنوانها الكوليرا نظمتها في السابع والعشرين من شهر تشرين الأول وذلك عام٩٤٧ م. ([12])
وفي منتصف الشهر الثاني من ذلك الشهر أصدر السياب ديوانه " أزهار ذابلة " وفيه قصيدة حرة الوزن من بحر الرمل عنوانها ( هل كان حباً ) ... ثم مضت سنتان كاملتان لم تنشر الصحف شعراً حرا على الاطلاق ، ثم في صيف سنة 1949م أصدرت ديوانها " شظايا ورماد " ضمنته مجموعة من القصائد الحرة ، وقدمتلديوانها بمقدمة مسهبة بينت فيها وجه التجديد في ذلك الشعر، واختلافه عن أسلوبالقصائد ذات الشطرين، ودواعي إضرابها عن محاكاة قصائد الشعر الخليلي. ([13])
تقول في مقدمة ديوانها " شظايا ورماد " ( في هذا الديوان لون بسيط من "الخروج" على القواعد المألوفة. يلاحظ في قصائد مثل "جامعة الظلال" و"لنكن أصدقاء" و"مرثية يوم تافه" و"أغنية الهاوية" وسواها. وقد يحسن بي أن أؤكد للقارئ أنني لا أعد نفسي واحدة من المرهفين الذي تحدثت عنهم في الصفحات السابقة، سوى أنني أحسست أن هذا الأسلوب الجديد في ترتيب تفاعيل الخليل يطلق جناح الشاعر من ألف قيد. ) ([14] )
ولاتعتبر ـ نازك دعوتها خروجا على طريقة الخليل وإنما (وإنما هو تعديل لها، يتطلبه تطور المعاني والأساليب خلال العصور التي تفصلنا عن الخليل ) ([15] )
وتعتبر نازك القافية حجر تلقمه الطريقة القديمة كل بيت ، فتقول : (وليس هذا مكان الحديث عن الخسائر الفادحة التي أنزلتها القافية الموحدة بالشعرالعربي طوال العصور الماضية، وإنما المهم أن نلاحظ أن هذه القافية تضفي على القصيدة لونا رتيبا يمل السامع فضلا عما يثير في نفسه من شعور بتكلف الشاعر وتصيده للقافية ومن المؤكد أن القافية الموحدة قد خنقت أحاسيس كثيرة، ووأدت معاني لا حصر لها في صدور شعراء أخلصوا لها ) ([16] )
وفي السعي إلى معاني جديدة ، ترى نازك أن اللفاظ القديمة سجن للمعاني ، وتضيف ( قلتُ إن اللغة العربية لم تكتسب بعد قوة الإيحاء، لأن كتابها وشعراءها لم يعتادوا استغلال القوى الكامنة وراء الألفاظ استغلالا تاما، إلا حديثا، فقد بقيت الألفاظ طول قرون الفترة الراكدة "المظلمة.." تستعمل بمعانيها الشائعة وحدها. وربما كان ذلك هو السبب في جنوح الجمهور العربي جنوحا شديدا إلى استنكار المدارس الشعرية التي تعتمد على القوة الإيحائية للألفاظ، كالرمزية، والسريالية، على اعتبار أن هذه المدارس تحمل اللغة أثقالا من الرموز والأحلام الباطنية والخلجات الغامضة، واتجاهات اللاشعور، ومثل ذلك مما لا تنهض به إلا لغة بلغت قمة نضجها. ) ([17] )
وبالعودة إلى كتاب قضايا الشعر المعاصر نراها تشير إلى الآثار والضجة التي أحدثها الديوان وهي كالتالي :
1. أما النقاد : فأثاروا مناقشات حامية ، وكان كثير منهم يتنبأ للدعوة بالفشل الأكيد .
2. وأما الجمهور : فأستجاب للدعوة في صمت وخفاء .
3. وأما الشعراء فماكادت الأشهر العصيبة الولى تمر حتى بدأت تظهر قصائد حرة الوزن ينظمها شعراء يافعون في العراق .
وأشارت إلى الاصدارات التي تلت دعوتها ، ومنها ديوان عبدالوهاب في ديوانه ( ملائكة وشياطين ) وشاذل طاقة في ديوانه ( المساء الأخير)، وبدر شاكرالسياب في ديوانه ( أساطير) وتتالت بعد ذلك الدواوين، وراحت دعوة الشعر الحرتتخذ مظهرا أقوى، حتى راح بعض الشعراء يهجرون أسلوب الشطرين هجرا قاطعاليستعملوا الأسلوب الجديد. ([18])
الظروف
رأت نازك أن المحاولات الأولى لنظم الشعر الحر، واجهتها عقبات وظروف بعض تلك الظروف عام يتعلق بطبيعة الحركات الجديدة، وثانيهما يتصل بالشعر الحر نفسه ففيما يتصل بالجانب الأول رأت نازك أن الشعر الحر قد بدأ حييا ، مترددا ، مدركاً أنه لابد أن يحتوي على فجاجة البداية ، وكل حركة جديدة تتعرض لمثل هذه الفجاجةوهي تتطلب زمنا لتدرك النضج.
أما الجانب الثاني فهو يتصل بالشعر الحر نفسه، فهو حركة جابهها الجمهور أول مرة في هذا العصر ، فهو شعر جديد يختلف عن الموشحات الأندلسية، وعن شعر البندالمعروف في العراق. ([19])
وقد تعرض الشعر الحر لمعارضة كثير من الشعراء والنقاد في بادئ الأمر، ورأواأنه نثر عادي لا شعر، وذلك قبل أن يستحكم نسجه وينتشر ، فتقول نازك ( ولعل أبرز الأدلة على أن حركة الشعر كانت وليدة عصرنا هذا أن أغلبيىة قرائنا مازالوا يستنكرونها ويرفضونها ، وبينهم كثرة لايستهان بها تظن أن الشعر الحر لايملك من الشعرية الا الاسم فهو نثرعادي لا وزن له )
( ونتيجة لهذه الظروف العامة والخاصة يسهل أن يسقط المبتدئون من الشعراء في التشابه والتكرار الممل ، فينهج الواحد منهم نهج زملائه الاخرين دونما ابتكار ) ([20])
المزايا المضللة في الشعر الحر
مع أن أوزان الشعر الحر تمتلك مزايا عظيمة تسهل على الشاعر مهمة التعبير إلا أن نازك تحذر من وهم سهولة النظم على الأوزان الحرة، فمن يتصدى للنظم على هذهالأوزان يقع في مزالق خطرة، تكون قادرة على خلق امكانيات الابتذال والرخاوة إنلم يراع ما يتطلبه قول الشعر على هذه الأوزان من جهد كبير،ومراعاة للموسيقا واختيارالموضوعات المناسبة. فالحرية التي يتوهمها بعض الشعراء في الشعر الحرتؤدي بالشاعر إلى ركاكة الأسلوب وتفاهة المعاني ، وتتناول نزك هذه المزايا الخادعة وهي ثلاث :
أولاً : الحرية البراقة التي تمنحها الأوزان الحرة ... والحق أنها حرية خطيرة ... فالشاعر حين يبدأ في قصيدته تخلب لبه السهولة التي يتقدم بها فلاقافية تضايقه ، ولاعدد معينا للتفعيلات يقف في سبيله ... فيصبح في نشوة هذه الحرية ، سكران بالحرية ... وهكذا ينطلق الشاعر حتى من قيود الاتزان ووحدة القصيدة ، وأحكام هيكله ،وربط معانيها فتتحول الحرية إلى فوضى ([21])
ثانياً : الموسيقى التي تمتلكها الأوزان الحرة تضلل الشاعر ، ففي ظلها يكتب الشاعر كلاما غثاً مفككا دون أن ينتبه ، لأن موسيقية الوزن وانسيابه يخدعانه ويخفيان العيوب ، ويفوت الشاعر أن هذه ليست موسيقى شعره وإنما هي موسيقى ظاهرية في الوزن نفسه .
ثالثاً : التدفق ، وهي مزية معقدة ، وينشأ التدفق عن وحدة التفعيلة في أغلب الأوزان الحرة ... وهذا مايجعل الوزن يتدفق تدفقاً سريعاً ... فتخلو القصيدة من الوقفات والوقفات مهمة كما يعلم الشعراء ، شديدة الأهمية في كل وزن ... وعندما نلاحظ الوقوف في أوزان الخليل نرى أن البحور الستة عشر ذات الشطرين تقف عند نهاية الشطر الثاني من البيت وقفة لامهرب منها ، فتنتهي الألفاظ وينتهي المعنى ... واستقلال البيت كان مزية عند العرب ، بل كانوا يعتبرون التضمين عيبا فادحاً .([22]) والشعر الحر يعتمد تحطيم استقلال الشعر تحطيما كاملا ، لذلك لانجد له وقفات ثابتة حتى مع وجود القافية نهاية كل شطر... ولذلك فالشاعر في الشعر الحر ، ليس ملزما أن ينهي المعنى والإعراب عند آخر الشطر .. وهنا ينهض المشكل .. فقد راح الشعراء الناشئين يكتبون بلا توقف ، فكأن المرء وهو يقرأ شعرهم يجري في معترك لاهث لاراحة فيه . ([23])
نتائج التدفق في الأوزان الحرة
وهذه التدفقية في رأي ــ نازك ــ تؤدي إلى قيام ظاهرتين ملحوظتين في الشعر الحر يمكن أن تعد من عيوبه وهما :
( أ ) تجنح العبارة في الشعر الحر إلى أن تكون طويلة طولاً فادحا ، ثم تورد أمثلة لذلك من شعر السياب ، والبياتي ، وتضيف ( والحقيقة أننا لو تأملنا قيود الأوزان الحرة لوجدناها لاتقل عن قيود أوزاننا القديمة إن لم تزد ) ([24])
ب) تبدو القصائد الحرة وكأنه متدفقة لاتريد أن تنتهي ، وليس أصعب من اختتام هذه القصائد ... خاصة في قصائد الوصف والمناجاة ونحوها ، وفي الوزن الحر فإن الوقفات الطبيعية معدومة . ([25])
الخواتم الضعيفة للقصائد الحرة
وتبرز مشكلة جديدة تعالجها نازك ، فالشعراء يلجأون إلى أساليب شكلية غير مقبولة عند ختام قصائدهم ، منها اختتام القصيدة بتكرار مطلعها ، وأسلوب آخر اسمته أسلوب " ويظل" وهو أسلوب تنويمي لأنه يسلم المعنى الى استمرارية مريحة .([26])
عيوب الوزن الحر
وتبين ــ نازك ــ عيوب الشعر الحر، وأبرزها عيبان يرتكز كل منهما الى تركيب التفعيلات في الشعر الحر ، وهما :
أ‌) اقتصار الشعر الحر بالضرورة على عشرة بحور ، وهذا يضيق مجال ابداع الشاعر ( فقد ألف الشاعر أن يجد أمامه ستة عشر بحرا شعريا بوافيها ومجزوئها ومشطورها ومنهوكها ، وقيمة ذلك في التنويع والتلوين ، ومسايرة مختلف أغراض الشاعر الكبيرة ) ([27])
ب‌) يرتكز أغلب الشعر الحر إلى تفعيلة واحدة ــ ثمانية بحور من عشرة ــ ( وذلك يسبب فيه رتابة مملة خاصة حين يريد الشاعر أن يطيل قصيدته ) ([28])
إمكانيات الشعر الحر ومستقبله
بتفاؤل مشوب بحذر تتنبأ ــ نازك ــ بمستقبل الشعر الحر ، مع أن الحركة برأيها بدأت تبتعد عن غاياتها المفروضة منذ سنة 1951م ، ولاتظن هذا غريبا أو داعيا للتشاؤم ، لأن غالب الحركات الوطنية أو الاجتماعية أو الأدبية تمر بمراحل الفوضى ثم الاستقرار . وتتنبأ نازك بنبوءة جديدة فتقول :
( فأنا أتنبأ بأن حركة الشعر الحر ستصل إلى نقطة الجزر في السنين القادمة ، ولسوف يرتد عنها أكثر الذين استجابوا لها خلال السنين العشر الماضية ، على أن ذلك لايعني انها ستموت ) ([29])
مع أنها أيقنت في مقدمة ديوانها شظايا ورماد بتغييرواسع لايبقي ولايذر فقالت : ( والذي اعتقده أن الشعر العربي يقف اليوم على حافة تطور جارف عاصف لن يبقى من الأساليب القديمة شيئا. فالأوزان والقوافي والأساليب والمذاهب ستتزعزع قواعدها جميعا، والألفاظ ستتسع حتى تشمل آفاقا جديدة واسعة من قوة التعبير، والتجارب الشعرية "الموضوعات" ستتجه اتجاها سريعا إلى داخل النفس بعد أن بقيت تحوم حولها من بعيد. أقول هذا اعتمادا على دراسة بطيئة لشعرنا المعاصر واتجاهاته. ) ([30]) وتضيف ظايضا في المقدمة (آخر ما أود أن أقوله في هذه المقدمة إنني أؤمن بمستقبل الشعر العربي إيمانا حارا عميقا. أؤمن أنه مندفع بكل ما في صدور شعرائه من قوى ومواهب وإمكانيات، ليتبوأ مكانا رفيعا في أدب العالم.) ([31])
الفصل الثاني / الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر
تحدثت نازك عن الجذور الاجتماعية لحركة الشعر الحر. فالتجديد حاجة ماسةتفرضه عوامل اجتماعية داخلية وخارجية. ولكن المجتمعات تقف من محاولاتالتجديد موقف الريبة والتحفظ، فلا تقبل الجديد إلا بعد رفض طويل ومقاومةشديدة . ( لقد كانت هذه الحالة من الانكماش والرفض ردة الفعل الأولى التي لقيته حركة الشعر الحر حين انبثقت أول مرة في العراق ، فقد قابلها الأدباء والجمهور مقابلة غير مرحبة ورفضوا أن يتقبلوها وعدوها بدعة غرضها هدم الشعر العربي ) ([32]) ، وقد اتهم الشعراء المجددون بأنهم لجؤوا إلى هذا الشعر لسهولتهوللتخلصمن صعوبة الأوزان العربية.
وتستدل على أن حركة الشعر الحر كانت مقودة بضرورة اجتماعية محضة هو أن محاولات وأدها قد فشلت جميعا ( والحق أنه في إمكاننا أن نعد حركة الشعر الحر حصيلة اجتماعية محضة تحاول بها الأمة العربية أن تعيد بناء ذهنها العريق المكتنز على أساس حديث ) ([33])
وتذكر نازك خمسة عوامل اجتماعية جعلت الشعر الحر ينبثق، وهي تتعلق بالاتجاها الاجتماعية العامة للفرد العربي المعاصر ، وترتكز إلى تفاصيل الشعر القديم ، وخصائص الشعر الحر نفسه :
1. النزوع إلى الواقع
( تتيح الأوزان الحرة للفرد المعاصر أن يهرب من الجواء الرومانسية إلى جو الحقيقة الواقعية ... وقد تلفت الشاعر إلى أسلوب الشطرين فوجده يتعارض مع هذه الرغبة عنده لأنه من جهة مقيد بطول محدود للشطر وبقافية موحدة لايصح الخروج عليها، ولأنه من جهة أخرى حافل بالغنائية والتزويق والجمالية العالية ) ([34])
2. الحنين إلى الاستقلال
فالشاعر الحديث يحب أن يثبت فرديته باختطاط سبيل شعري معاصر يصب فيه شخصيته الحديثة التي تتميز عن شخصية الشاعر القديم ... ويعني هذا أن لحركة الشعر الحر جذورا نفسية نفسية تفرضها ... وحرقة الاستقلال هذه تدفع الشاعر إلى البحث في أعماق نفسه عن مواهب كامنة غير مستغلة وعن مقدرات وخصائص ... تعطيه شخصية متفردة تميزة عن أسلافه . ([35])
3. النفور من النموذج
وتتقصد بالنموذج : اتخاذ شيء ما وحدة ثابتة وتكرارها بدلا من تغييرها وتنويعها ... لقد جاء الشاعر المعاصر باتجاهاته الحديثة ونظر في نظام الشطرين فوجده يبيح له شكلا مقيدا بنمط معين ذي طبيعة هندسية مضغوطة ... ولابد أن تتطلب هندسة مقابلة في الفكر الذي يستوعبه هذا الشكل ، وذلك بمعزل عن حاجة السياق ... لقد وجد الشاعر الحديث نفسه محتاجا الى الانطلاق من هذا الفكر الهندسي الصارم الذي يتدخل حتى في طول عبارته ، وليس هذا غريبا في عصر يبحث عن الحرية ، ويريد أن يحطم القيود ، ويعيش ملء مجالاته الروحية والفكرية ... ولم تكن حركة الشعر الحر الا استجابة لهذا الميل . ([36])
4. الهروب من التناظر
تربط نازك هنا بين الفن المعماري العربي ، وأوزان الخليل العروضية ، وتبالغ فتقول : ( ولم يخطر ببالي أنني إنما دعوت ... إلى إقامة الشعر على أشطر غير متساوية ... لأنني أدعو أيضا إلى تغيير نظام المباني ... وعندما استجاب كثير من شعراء العصر إلى دعوة الشعر الحر بدأ طراز المباني يتغير )
( وعلى هذا تكون سطوة الشعر الحر على الحياة العربية اليوم ، ناشئة على أننا نتأثر بطراز المباني التي نحيا فيها ، وهي مباني ثائرة على التناظر ثورة واضحة لكل ذي بصر.) ([37])
5. إيثار المضمون
يتجه الفرد العربي المعاصر إلى تحكيم المضمون في الشكل ، وهذا مرتبط بما نراه من ميل العصر إلى الإنشاء والبناء ... إن الشكل والمضمون يعتبران في أبحاث الفلسفة الحديثة وجهان لجوهر واحد لايمكن فصل جزئيه إلا بتهديمه أولاً.
ولقد جاء عصرنا هذا على أثر العصر المظلم الذي غلبت فيه على الشعر العربي القوالب الشكلية والصناعية الفارغة والأشكال التي لاتعبر عن حاجة حيوية ... وقد كان ردّ الفعل المباشر عند الشاعر المعاصر ، أن يتجه إلى العناية بالمضمون ، ويحاول التخلص من القشور الخارجية .
ومن ثم فإن الأسلوب القديم عروضي الاتجاه ، يفضل سلامة الشكل على صدق التعبير وكفاءة الإنفعال ، ويتمسك بالقافية الموحدة ، لو على حساب الصور والمعاني التي تملأ نفس الشاعر . ([38])
المراجع
1. قضايا الشعر المعاصر ، نازك الملائكة . دار العلم للملايين ، بيروت الطبعة الثانية عشر 2004.
2. مقدمة شظايا ورماد ، نازك الملائكة. ضمن سلسلة نظرية الشعر، جمع محمد كامل الخطيب ، وزراة الثقافة ـ سوريا د.ت


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق