(الكتاب الأصفر)
أزوره لأستعير كتبه، لا يحبّ إعارة الكتب! أما لي فيرحّب ويشجّع، وبل ويقدّم لي نصائح، ويختار لي كتبا لأنّني أعيد ما أستعيره في الوقت المحدّد.
سألته يوما:
لماذا تكره إعارة الكتب؟
قال:
هل لاحظت الأسماء المدوّنة على الورقة الأولى من كل كتاب؟
هل لاحظت أنّ كلّ كتاب يحمل اسما مختلفا؟
كل هذه الكتب استعرتها ولم أعدها لأصحابها! والمشكلة أنّه ليس لهذا العمل عقوبة، إذا لم يعاقبني أحد، وأنا بدوري لا أستطيع معاقبة أحد، لذلك لا أعير الكتب!
ومع أنّه يحمل هذا المفهوم، إلا أنّه مثقّف من الطّراز الأول وصاحب خبرة كبيرة في الحياة!
يناقشني في كلّ كتاب قرأته، وإذا لم يقتنع بأن فكرة الكتاب قد وصلتني، يطلب منّي إعادة قراءته، يقول لي:
إقرأ ما بين السّطور، لا تكن سطحيّا، فلكلّ كتاب قرين، عليك أن تتعرّف على الكتاب وعلى ظلّه القرين، ألا ترى أنّ النّقاد يؤلّفون كتبا كثيرة حول كتاب واحد، من أين جاءوا بكلّ هذا الكلام حول كتاب واحد؟ عليك أن تقرأ الكتاب ومعه الكتب النّقدية المفترضة.
هذا جعلني أقرأ الكتاب بتمهّل لأجتاز الاختبار الصّعب والانتقال لكتاب آخر.
رفّ من بين كلّ الرّفوف يمنعني من الاقتراب إليه، يقول: من المبكّر الآن أن تقرأ كتابا من هذا الرّف، عليك أن تقرأ كل المكتبة قبل أن تقرأ كتابا منه!
هذا الكلام يزيد الفضول في داخلى حتّى أنّه لمّا خرج ليحضر الشّاي، سحبت كتابا منه وخبّأته في ثيابي، شربت الشّاي ثم غادرت مسرعا إلى غرفتي.
كان الوقت ليلا، قلّبته بين يديّ، كان كتابا قديما جدا، قرأت عنوانه المدوّن بخطّ الثّلث، تحته سلسلة طويلة من الألقاب تنتهي باسم مهيب مكتوب بخطّ الجلي الدّيواني، تحته وبخطّ الرّقعة مكتوب: طبع في مصر.
كانت أوراقه جافّة تتكسّر بسهولة، لونها بنيّ أو أصفر عاتم، في كلّ صفحة كلام سرديّ ينتهي برموز وحروف مكرّرة وكلمات مبهمة، وأحيانا كتابة بالمقلوب، على حاشية كلّ ورقة الكثير من الكتابات والتعليقات بقلم حبر سائل وبألوان مختلفة،
كانت قراءة الصّفحة الأولى شاقّة جدا لأنّها مكتوبة بطريقة قديمة لم أعهدها في الكتب الحديثة التي تنساب الكلمات فيها انسيابا مهما كان معقدا!
فانتقلت مباشرة إلى منتصف الكتاب بطريقة عشوائيّة وبدأت القراء، حيث طلب منّي الكاتب الجلوس بطريقة معيّنة وترديد الكلمات الغريبة المدوّنة، ففعلت!
انقطع التيار الكهربائيّ في غرفتي فقط، كانت إضاءة الشّارع تصل إليها، فأنارت نصفها بشكل خافت!
فجأة، رأيت على الطّاولة أمامي رجلا قزما بطول شبر، قال لي:
لا تخف، أنت طلبت حضوري وأنا رهن إشارتك!
كاد الدّم يتجمّد في عروقي، قلت: أنا ما طلبت أحدا، من أنت؟
قال: أنا خادمك من عالم الجنّ، أين تحبّ أن تذهب؟
قلت: إلى حيث تعيش (سميّة الخشّاب) !
قال فقط أغمض عينيك!
أغمضتهما فعلا، فرأيت سميّة كأنّها أمامي بشحمها ولحمها، تستحمّ وتغني! ففتحت عينيّ بسرعة وقلت له: تبا لك، إنّها تستحمّ!
طلبتُ من القزم أن يغادر، فقال: ما هكذا أغادر! أغلقت الكتاب، ثمّ فتحته بطريقة عشوائية إلى مكان آخر، وكانت صفحة مشابهة، حيث طلب مني الكاتب أيضا ترديد بعض الكلمات الغريبة بعدد معيّن من المرّات، فرأيت أربعة من الجنّ الأقزام أمامي وقد وقفو إلى جانب الأوّل! قال أحدهم: بإمكانك أكل الزّجاج! قال الثّاني: بإمكانك السّير على النّار، قال الثّالث: بإمكانك أن تطعن نفسك بالسّيوف دون أن تتأذّى، قال الرّابع: بإمكانك أن تطير في الهواء!
قلت: لا أريد شيئا من هذا، اغربوا عن وجهي الآن!
قال أحدهم ما هكذا نذهب!
وهكذا، في كلّ مرّة أقرأ فيها صفحة من الكتاب، يتكاثر الأقزم من حولي وهم يعرضون خدماتهم عليّ، فشعرت بالتّعب وتمدّدتُ في الفراش، وما أن دخلت بالنّوم حتى شعرت أنّ اللّحاف يرتفع من فوقي إلى ارتفاع متر! أعدته إليّ، وبعد قليل ارتفع أيضا، وهكذا عدّة مرّات إلى أن يئست فنمت، وليتني ما نمت! فقد رأيت أبشع كوابيس يمكن أن يراها نائم!
وفي الصّباح، وعند تناول طعام الإفطار مع أهلي، أكلت كؤوس الشّاي كمن يأكل قطع البسكويت، ثمّ شربت إبريق الشّاي الحارّ جدّا كاملا في شربة واحدة وسط ذهول أهلي! وكلّ هذا دون أن أشعر بنفسي.
قالت أمي لأبي: لقد (طقّ) عقل الصّبي من كثرة ما يقرأ في الكتب!
أدرك أبي هذا الأمر، فأحضر الكتاب، وجرّني من يدي إلى صاحبنا الذي دُهش من رؤية الكتاب ومن رؤيتي بهذه الحالة! فسألني: هل صرفت الجنّ الذين استعملتهم؟ قلت: لا أعرف!
فأجلسني إلى جواره وضع يده على رأسي وبدأ يقرأ بصوت خافت، فشعرت وكأنّني أصحو من النوم!
أعاد الكتاب إلى مكانه على الرّفّ، ثمّ بدأ بتأنيبي وتعنيفي على أخذ الكتاب خلسة، وأنا صامت لا أجيب!
نظرت إلى الرّف، كان هناك قزم يحمل بيده شوكة يشير إليّ ويضحك، بل يكاد ينفجر من الضّحك!
فقلت لصاحبي: انظر، ذلك القزم الوغد يضحك عليّ!
نظر أبي والرجل إلى الرّف فما وجدا شيئا
قال صاحبنا لأبي: لا بأس، لا بأس ... يحتاج للمزيد من العلاج، تعال به غدا!
أزوره لأستعير كتبه، لا يحبّ إعارة الكتب! أما لي فيرحّب ويشجّع، وبل ويقدّم لي نصائح، ويختار لي كتبا لأنّني أعيد ما أستعيره في الوقت المحدّد.
سألته يوما:
لماذا تكره إعارة الكتب؟
قال:
هل لاحظت الأسماء المدوّنة على الورقة الأولى من كل كتاب؟
هل لاحظت أنّ كلّ كتاب يحمل اسما مختلفا؟
كل هذه الكتب استعرتها ولم أعدها لأصحابها! والمشكلة أنّه ليس لهذا العمل عقوبة، إذا لم يعاقبني أحد، وأنا بدوري لا أستطيع معاقبة أحد، لذلك لا أعير الكتب!
ومع أنّه يحمل هذا المفهوم، إلا أنّه مثقّف من الطّراز الأول وصاحب خبرة كبيرة في الحياة!
يناقشني في كلّ كتاب قرأته، وإذا لم يقتنع بأن فكرة الكتاب قد وصلتني، يطلب منّي إعادة قراءته، يقول لي:
إقرأ ما بين السّطور، لا تكن سطحيّا، فلكلّ كتاب قرين، عليك أن تتعرّف على الكتاب وعلى ظلّه القرين، ألا ترى أنّ النّقاد يؤلّفون كتبا كثيرة حول كتاب واحد، من أين جاءوا بكلّ هذا الكلام حول كتاب واحد؟ عليك أن تقرأ الكتاب ومعه الكتب النّقدية المفترضة.
هذا جعلني أقرأ الكتاب بتمهّل لأجتاز الاختبار الصّعب والانتقال لكتاب آخر.
رفّ من بين كلّ الرّفوف يمنعني من الاقتراب إليه، يقول: من المبكّر الآن أن تقرأ كتابا من هذا الرّف، عليك أن تقرأ كل المكتبة قبل أن تقرأ كتابا منه!
هذا الكلام يزيد الفضول في داخلى حتّى أنّه لمّا خرج ليحضر الشّاي، سحبت كتابا منه وخبّأته في ثيابي، شربت الشّاي ثم غادرت مسرعا إلى غرفتي.
كان الوقت ليلا، قلّبته بين يديّ، كان كتابا قديما جدا، قرأت عنوانه المدوّن بخطّ الثّلث، تحته سلسلة طويلة من الألقاب تنتهي باسم مهيب مكتوب بخطّ الجلي الدّيواني، تحته وبخطّ الرّقعة مكتوب: طبع في مصر.
كانت أوراقه جافّة تتكسّر بسهولة، لونها بنيّ أو أصفر عاتم، في كلّ صفحة كلام سرديّ ينتهي برموز وحروف مكرّرة وكلمات مبهمة، وأحيانا كتابة بالمقلوب، على حاشية كلّ ورقة الكثير من الكتابات والتعليقات بقلم حبر سائل وبألوان مختلفة،
كانت قراءة الصّفحة الأولى شاقّة جدا لأنّها مكتوبة بطريقة قديمة لم أعهدها في الكتب الحديثة التي تنساب الكلمات فيها انسيابا مهما كان معقدا!
فانتقلت مباشرة إلى منتصف الكتاب بطريقة عشوائيّة وبدأت القراء، حيث طلب منّي الكاتب الجلوس بطريقة معيّنة وترديد الكلمات الغريبة المدوّنة، ففعلت!
انقطع التيار الكهربائيّ في غرفتي فقط، كانت إضاءة الشّارع تصل إليها، فأنارت نصفها بشكل خافت!
فجأة، رأيت على الطّاولة أمامي رجلا قزما بطول شبر، قال لي:
لا تخف، أنت طلبت حضوري وأنا رهن إشارتك!
كاد الدّم يتجمّد في عروقي، قلت: أنا ما طلبت أحدا، من أنت؟
قال: أنا خادمك من عالم الجنّ، أين تحبّ أن تذهب؟
قلت: إلى حيث تعيش (سميّة الخشّاب) !
قال فقط أغمض عينيك!
أغمضتهما فعلا، فرأيت سميّة كأنّها أمامي بشحمها ولحمها، تستحمّ وتغني! ففتحت عينيّ بسرعة وقلت له: تبا لك، إنّها تستحمّ!
طلبتُ من القزم أن يغادر، فقال: ما هكذا أغادر! أغلقت الكتاب، ثمّ فتحته بطريقة عشوائية إلى مكان آخر، وكانت صفحة مشابهة، حيث طلب مني الكاتب أيضا ترديد بعض الكلمات الغريبة بعدد معيّن من المرّات، فرأيت أربعة من الجنّ الأقزام أمامي وقد وقفو إلى جانب الأوّل! قال أحدهم: بإمكانك أكل الزّجاج! قال الثّاني: بإمكانك السّير على النّار، قال الثّالث: بإمكانك أن تطعن نفسك بالسّيوف دون أن تتأذّى، قال الرّابع: بإمكانك أن تطير في الهواء!
قلت: لا أريد شيئا من هذا، اغربوا عن وجهي الآن!
قال أحدهم ما هكذا نذهب!
وهكذا، في كلّ مرّة أقرأ فيها صفحة من الكتاب، يتكاثر الأقزم من حولي وهم يعرضون خدماتهم عليّ، فشعرت بالتّعب وتمدّدتُ في الفراش، وما أن دخلت بالنّوم حتى شعرت أنّ اللّحاف يرتفع من فوقي إلى ارتفاع متر! أعدته إليّ، وبعد قليل ارتفع أيضا، وهكذا عدّة مرّات إلى أن يئست فنمت، وليتني ما نمت! فقد رأيت أبشع كوابيس يمكن أن يراها نائم!
وفي الصّباح، وعند تناول طعام الإفطار مع أهلي، أكلت كؤوس الشّاي كمن يأكل قطع البسكويت، ثمّ شربت إبريق الشّاي الحارّ جدّا كاملا في شربة واحدة وسط ذهول أهلي! وكلّ هذا دون أن أشعر بنفسي.
قالت أمي لأبي: لقد (طقّ) عقل الصّبي من كثرة ما يقرأ في الكتب!
أدرك أبي هذا الأمر، فأحضر الكتاب، وجرّني من يدي إلى صاحبنا الذي دُهش من رؤية الكتاب ومن رؤيتي بهذه الحالة! فسألني: هل صرفت الجنّ الذين استعملتهم؟ قلت: لا أعرف!
فأجلسني إلى جواره وضع يده على رأسي وبدأ يقرأ بصوت خافت، فشعرت وكأنّني أصحو من النوم!
أعاد الكتاب إلى مكانه على الرّفّ، ثمّ بدأ بتأنيبي وتعنيفي على أخذ الكتاب خلسة، وأنا صامت لا أجيب!
نظرت إلى الرّف، كان هناك قزم يحمل بيده شوكة يشير إليّ ويضحك، بل يكاد ينفجر من الضّحك!
فقلت لصاحبي: انظر، ذلك القزم الوغد يضحك عليّ!
نظر أبي والرجل إلى الرّف فما وجدا شيئا
قال صاحبنا لأبي: لا بأس، لا بأس ... يحتاج للمزيد من العلاج، تعال به غدا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق