لمَ تسلَني يا صديقي وعيناك تنهملان دمعاَ على وجنتيك ؟ فليس في سؤالك ما يستدعي البكاء أبداَ . تسألني هل الأدب مهنة كغيره من المهن والصناعات ؟ قلت لك حينها : نعم يا صديقي إنها مهنة محببة الى أصحابها . فمن أصحاب المهن من يقلد غيره حسب ( كتالوج )خاص ضمن رسوماتٍ بعينها لا يتزحزح عنها قيد أنملة . ومثل هذا لا يمكن أن يأتي بإبداع تنظر اليه العين فتُسَرّ أو تسمع عنه الأذن فيلفت انتباهها . ومنهم من تراه لا يقلد أحداً بل يتفنن في مهنته حتى ترى ما يصنعه وكأنه جمال يعلوه جمال . فالحداد مثلاً لا يلفت انتباهه شيء كالحديد فبمجرد نظرة بسيطة من عينيه اليه يعرف صادره ووارده ومن أيّ صنف هو ومن أي البلاد مصدره . ولأي شيء ينفع . وكذلك النجار تراه يرى الخشب في ليله ونهاره وسره واجهاره . يعرف التفاصيل التي تتعلق به بكل علم ومعرفة وحسب الأصول . فكم من نجار أو حداد يشار اليه بالبنان ويمدحه المادحون لتألقه واخلاصه في عمله ويطلب الناس بضاعته ولو كانت تصنع في لبنان . حتى انك لترى الناس تأتيه من مكان بعيد . فمتجره دائم الحركة كثير البركة . وغيره ترى متجره وكأنه خاوٍ على عرشه ينعدم فيه ديناره عوضا عن قرشه . وقد خلا بطن صاحبه من كرشه . وكذلك الشاعر أو الأديب يرى الحروف فتشقشق روحه بها طربا وكأنها كرة جميلة في ملعبه يداعبها لعبا . يرى كل حرف على حِدَه يعرف مداخله ومخارجه ومتى يشرق نهاره ومتى ينطفئ ليله . متى يصلح للمدح ومتى يصلح للرثاء . يعرف القوة الكامنة في الحروف ومكامن الضعف فيها . فتراه حين يمسك بيراعه يعرف من أين تؤكل الكتف وما يكتنزه في نصّه وما هو الأنسب للوضع على الرف . ويعرف متى يراقص الحرف إما على البيانو أو على الدف . فترى النص يخرج من بين يديه كصبيّة حوراء وُلِدَت مع النسيم وقت السَّحَر فتشرق الكلمات كضوء القمر فيختال الجمال بين سطورها وكأنه لآلئ منثورة وصحف منشورة . ( وصفي المشهراوي )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق