الأربعاء، 28 سبتمبر 2016

بخار المال بقلم الدكتور عبد الصبور الحسن



بخار المال
وضعتُ توقيعي على جدول الرّواتب، تشكّرت المحاسب السّخيّ الذي يعطي المال بابتسامة رقيقة، وضعته في جيبي ثمّ مضيت، بعد خمسين خطوة مددتُ يدي إليه مرّة ثانية لأطمئنّ عليه، ولأستمدّ منه كل ما ينقصني من ثقة! 
كنت أسير في أروقة المديريّة مزهوّا، هذا الشّعور ينتابني كلّ شهر مرّة واحدة لعدّة ساعات فقط. 
كانت فرحة عابرة، أنا أدرك ذلك جيّدا، بل ومعتاد عليه أيضا! 
رأتني من بعيد (أم نهاد) رئيسة الدّيوان التي استدنتُ منها ما يبقيني حيّا وصامدا -كفزّاعة الطّيور- لآخر الشّهر. 
هرعتْ إليّ مسرعة من آخر الرّواق وهي تصيح محذّرة من دخان أو بخار يخرج من جيبي!
قالت:
لا بدّ وأنّك قد وضعت القدّاحة في جيبك وهي مشتعلة بعد أن أشعلتَ السّيكارة اللّعينة!
ارتعبتُ كثيرا لرؤية الدّخان يتصاعد من جيبي بشدّة، أخرجت النّقود نظرت إليها، كانت سليمة وغير مشتعلة، لأن القدّاحة ليست مع النّقود، وليست في الجيب الثّاني أيضا، فأنا لا أدخّن أصلا.
إذاً هو مجرّد بخار! ومع ذلك نقلتهم إلى الجيب الآخر كتدبير احترازي، ثم تابعت المسير إلى البيت.
وأنا في الطّريق، لم تتوقّف التّحذيرات من الدّخان الذي يتصاعد من جيبي، كنت مطمئنّا لأنّه بخار وليس دخانا، ومع ذلك دخلت أحد المساجد على طريقي للصّلاة، وفي الموضأ وزّعت المبلغ على كل جيوبي، بل وضعت قسما منها في جواربي!
عرّجت على المكتبة لشراء قرطاسيّة للأولاد في موسم المدرسة الجديد، كان البخار يتصاعد من كلّ جسدي هذه المرّة، وما أن ولجتُ الباب حتى صاح البائع:
اخرج أرجوك لا أريد للمكتبة أن تحترق!
وقفت خارجا، ناولني ما أريد بحذر ثم أمرني بالمغادرة بسرعة!
ولأنّني عوّدت الأولاد على تذوق اللّحم بداية كلّ شهر، مررت على القصّاب الثخين الغليظ الذي يأخذ نَفَسَه بصعوبة بسبب كرشه الذي يشبه كرش بقرة عشار!
كان جالسا على كرسيّ أمام المحلّ وبيده عصا رفيعة في نهايتها شرائح من النايلون القذر، يذبّ بها الذّباب عن نفسه وعن القطّ الذي ينام بجواره!
قال ساخرا:
أراك تشتعل كفحمة تحت الشّواء، ألا ترى هذا الدّخان الذي يتصاعد منك!؟
لم أشأ أن أجادله لأنّني أعرف مدى غلاظته، أخذت اللحم ومضيت.
بقي أمامي الصّيدليّة، عليّ أن أزورها لسببين:
لسداد الدّين المترتّب عليّ، ولرؤية تلك الصيدلانيّة الفاتنة ذات الوجه الجميل المبتسم دوما، هي أيضا تحب رؤيتي لأنّني أمازحها وألاطفها وأتغزل بعينيها الجميلتين ثم أستدين منها، هي تعرف مكري ودهائي، ولكنّها تقول دوما:
على قلبي أحلى من العسل!
لم تعلق على البخار المتصاعد منّي، إلا أنّني استبقتها بالقول:
إنني أحترق حبّا فيكِ، ضحكت وقالت علي أن أتّصل بالإطفاء!
شطبتْ اسمي من لائحة الدّيون، قلت لها:
لو عاد بي الزّمن لقاتلت الدّنيا من أجل عينيك البحريّتين!
ضحكتْ وقالت: وأنا أيضا، ولكن (عمّو) لا تتأخّر عن الغداء، زوجتك وأولادك بانتظارك!
لما وصلت باب البيت كان البخار قد أوشك على الاختفاء، إلا أنّني أشعر بآلام حرق في جيبي اليمنى، كان احتراقا حقيقيّا وليس بخارا هذه المرة!
خلعت بنطالي بسرعة داخل الباب، لامتني زوجتي بشدّة لأن هذا الوقت غير مناسب لخلع البنطال، ولكنها هدأتْ عندما أخرجتُ من جيب البنطال آخر ورقة نقديّة قبل احتراقها!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق