الثلاثاء، 5 فبراير 2019

حذاء أوربيّ قصة قصيرة بقلم الأستاذ / محمد فتحي المقداد

حذاء أوربيّ
قصة قصيرة
بقلم – محمد فتحي المقداد
«المنخفض القادم هذه المرة قطبي بارد جدًّا مؤكّد هطول الثلوج بكثافة ابتداء من مساء غد». مشى عايش بخطوات بطيئة، الكلمات التي سمعها صنعت متراسًا في أذنيْه، ولم تكتف، بل راحت تتسلّل لمداعبة حيرته حيال انتظاره العاجز، مظهره موحٍ ببؤس منبثق من بين أسمال أردانه مُهلهلة المظهر.
أفكاره مضطربة حدّ الصّراع، عجزه التّام في إيجاد نقطة البداية لمشروع مقاومة تبعات مترافقة مع الضيف القادم غدًا.
أتعبه المشي في شوارع المدينة. اتّكأ على جدار بعيد عن أبواب المحلّات التجاريّة. المارّة غارقون في اهتماماتهم ومقاصدهم التي يبتغونها. على مدار ساعة كاملة تابع تأمّلاته لتقاطيع وجوه من مرّوا أمامه. قرأ ملامحهم بتأنٍّ استغرقه، وابتعد به تفسيرًا وتأويلًا أنساه واقع حاله الذي لا يحتمل التأجيل ولو لساعة واحدة.
برودة الجدار اخترقت ملابسه وسرَت في أعصابه وعضلات كتفه، شعر بخدر انحدر إلى ساعده وصولًا إلى معصمه وكفّه. بحركات قويّة من يده الأخرى فرَك أصابعه لتبديد التنميل الطارئ عليها.
«يا إلهي البرد لا ينتظرني كي أُكمل استعداداتي..!!. ولا يمهلني إذا جاء موعده». هذه الكلمات البسيطة المفهومة بدلالاتها، انطلق بها لسان عايش ليُسمِع أذنيْه فقط. رسالة عاجلة من داخله دفعت به لاتخاذ أمر هامّ غاب عن حياته منذ ثلاثة أشهر عندما فُصِل من وظيفته في الشركة التي كان يعمل فيها.
تلمّس محفظة نقوده اطمأن قلبه إلى ما تبقّى فيها من بقايا تعويض نهاية خدمته. عادت نبضات قلبه نشطة مُتجدّدة، تواثبت أمنياته تزاحُمًا لكسب الوقت. لا محال لاحتمال التأخير وعيناه ترقبان مقدّمة حذائه كمن فغر فاه من جوع أو عطش.
مع بداية كلّ شه. عند استلام راتبه؛ تنفتح عليه أبواب من طلبات أسرته تفوق طاقة راتبه، على مدار سنة كاملة حلُم بحذاء جديد متوسّط الجودة. لحظة الحسم كانت في محل عتيق في أحد الشوارع الفرعيّة خاصّ ببيع موديلات أحذية أوربيّة مستعملة ذات مستويات من الجودة المختلفة. على مدار نصف ساعة من البحث وتقييس ما راق له منها. البائع البائس نظر بازدراء لقدم عايش، وكيف تستطيع أن تكون داخل الحذاء المُتوسّع كالاستيطان الصهيوني في جميع الاتجاهات؟.
استعلاء بنبرة صوته عندما يجيب على تساؤلات عايش عن سعر كلّ زوج من الأحذية. هو لا يأبه لقرف البائع ولا لنظراته.
- حاول عايش تسلية نفسه وإقناعها: «مؤكّد أن هذا المحل دخله قبلي ابن أحد المسؤولين، وما الفرق بيني وبينه؟».
مضى في بحثه بهمّة ونشاط للخروج من مأزقه، صدمة السّعر الذي طلبه البائع جعلته يتمرّد على ما بنفسه بعد إقناعها: «أوه رضينا بالهمّ، والهمّ ما رضي بنا، ووجه كلامه للبائع من جديد: أفّ..!! السعر غالي جدًّا، يعادل ضِعفيْ الجديد غير الملبوس من قبل».
- البائع: «نعم.. ولكنّها قطعة تستحقّ ثمنها لجودتها كماركة عالميّة، وهي أخت للجديد، بل في الحقيقة هي أفضل، انظر..!!.. إنّها غير ملبوسة كثيرًا، وأكبر ظنّي أنها سُرقت من صاحبها، أو انّه مُصاب بهوس شراء الموديلات الأحدث».
- عايش: «على كلٍّ لا تعدوا مهما علت ستبقى مستعملة، وما يدريني من استخدمها من قبل، أهو ملاك أم شيطان.. أم لصّ محترف ومهرّب مخدّرات، أو صحفيّ أفّاق كذّاب يملأ الدنيا بكذبه؟».
- البائع: «وماذا يضيرك من كلّ ما ذكرت إذا كان هناك في بلادهم؟. متأكّد أنّك ستدعو لي بظهر الغيب بعد ترتاح قدمك فيه».
تذكّر أمر غدٍ، وكفّ عن مجادلة البائع مختصرًا التمدّد في الحديث معه بعد خصم مُرضٍ حصل عليه، ولم يتردّد في إيداع حذائه الأصلي حاوية الزّبالة قبالة المحلّ، غير آسف عليه بعد أن لبس الجديد.
عمّان – الأردن
16 / 1 / 2019

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق