- يوميات رمضان - ٧ -
------------
تركت الظلمة أوداج الفجر، فأصبح واجبا حضور الصباح، جاء دون عناد هذه المرة، نسائم الشمال تأتي من خلف رابية جميلة، لا تشبه إلا أنثى مازالت في مفترق العمر الصغير .
كنت هناك حينها أراقب مع فنجاني الأسمر، لم أشأ أن أزعج تلك العصفورة وهي تداعب صغارها الأربعة، ربما كان درس صباحي فيه عظمة لا متناهية، بعدما أنهت مداعبتها المثيرة، وقفت على طرف العش، قفز قلبي خوفا من سقوطها، آه نسيت بأنها تملك جناحين لا أملك مثلهما، نظرت إلى صغارها ثم طارت نحو الأفق البعيد، هي رحلة مشوقة تمضيها كل يوم بحثا عن طعام يسد رمق الصغار، تعلقت عيناي بها إلى أن اختفت خلف الغيوم الرمادية.
عدت إلى العش القريب، ابتسمت كثيرا، بينما العصافير التي لم ينبت ريشها بعد تلهو على طريقة الكبار، أصواتها تملأ المكان، كانت فرحة كما أوراق شجرة الكينا الماكثة جنب النافذة .
- هيا أيها الصغير ... تعال إلي ...
- لا يا سيدي ... بيتي هنا ولا أحب أن أتركه ...
- وأنا انتظر عودة أمي ... فلا تتدخل بشؤوننا أيها الرجل ...
- أكمل فنجانك وانصرف، أو لا تكمله أفضل ... انصرف الآن ودعنا نتابع لهونا ...
ضحكت أكثر، ما أجمله من حوار، خال من غبار الزمن والغدر والخطيئة، رضخت لمشيئة الصغار وانصرفت على أمل اللقاء المسائي .
بعد ظهيرة ذاك اليوم ثارت الرياح، الزوابع تكاد تلامس السماء، الرمال تضرب كل ما يواجهها، أما الغبار فكان يروي حكايته مع المغادرين ، فجأة قفزت إلى ذاكرتي العرجاء تلك العصفورة ، وأبنائهاالأربعة .
- كيف ستعود والرياح الغليظة تحارب على جبهة جنوبية ...
- لا بد من أنها ستجد طريقة ما كي تعود ... وربما تسكت الرياح وينجلي الغبار ...
كنت أحدث نفسي وأنا في طريق العودة إلى بيتي .
دون أن أخلع ملابسي، ذهبت مسرعا إلى النافذة، فتحتها بقسوة وعجلة حتى كادت أن تنكسر، نظرت إلى العش، لم أر الصغار، اختفوا بين عيدان القش، أحدهم كان يمد رأسه الصغير ( الأصلع ) بين فينة وأخرى، ينظر إلى الأفق، يزقزق بصوت مرتعد، ثم يختبئ مع إخوته بين القش المتطاير مع الرياح .
- آه ... يارب ... احم تلك العصفورة ... وأعدها إلى صغارها ...
سمعت قهقهات تنطلق من العش، لقد سمعني الصغار ، فضحكت أنا أيضا معهم، لكنها كانت ضحكة من الثغر فقط .
تراخت الزوابع قليلا، بشرى جميلة تأتي من رحم السماء المكفهرة، الغبار بدا ينحسر رويدا رويدا ... وأنا مازلت أراقب من خلف زجاج النافذة، أغصان شجرة الكينا تلطم وجنة نافذتي، السكون يلتقط أنفاسه بعد طول عناء .
- ها هي ... هاهي ... لقد ظهرت من خلف تلك الرابية ...
قفز الصغار دفعة واحدة، نظروا إلى الرابية، وإلي، عناق من نوع آخر بين الأربعة .
وأخيرا حطت العصفورة على طرف العش، كان ريشها منفوشا، مغبرا، وثغرها خاو من أي شيء .
- الحمد لله أنها عادت سالمة ... سوف تتدبر أمر الطعام ... قلت في سري .
حاولت أن أترك النافذة، لكن شيئا ما منعني من المغادرة .
كانت الشمس تميل نحو عشها الأثير، صراخ العصافير يتعالى، مشكلة مع الأم ، لعله الجوع والبطون الخاوية .
في تلك اللحظة كان باشق يعبر من فوقنا، كان مرتفعا بشكل طفيف، شاهد رجل يسدد بندقيته صوبه، عرف بأنه المقصود، انخفض أكثر متخفيا وراء أكمة الأشجار المجاورة، انطلقت الرصاصة، قلبي كان يخفق، رمى الباشق أشياء كانت بمخالبه، سقطت فوق جاري العش، التقطت الأم الهدية، نظرت إلى الباشق ...
- إنه بخير ... لم تصبه الرصاصة ... ربما كان الصياد هاويا أو أنه لا يجيد التصويب ...
فجأة تلاقت نظراتنا جميعا، العصفورة وأبنائها، الباشق، الصياد، وأنا ... ثلاثة منا تعالت ضحكاتهم، بينما الرابع انزوى خجلا وتوارى عن أعيننا ... ( يالك من صياد أحمق ) ... قلت في نفسي ...
------------
وليد.ع.العايش
٧/رمضان/ ١٤٣٩
------------
تركت الظلمة أوداج الفجر، فأصبح واجبا حضور الصباح، جاء دون عناد هذه المرة، نسائم الشمال تأتي من خلف رابية جميلة، لا تشبه إلا أنثى مازالت في مفترق العمر الصغير .
كنت هناك حينها أراقب مع فنجاني الأسمر، لم أشأ أن أزعج تلك العصفورة وهي تداعب صغارها الأربعة، ربما كان درس صباحي فيه عظمة لا متناهية، بعدما أنهت مداعبتها المثيرة، وقفت على طرف العش، قفز قلبي خوفا من سقوطها، آه نسيت بأنها تملك جناحين لا أملك مثلهما، نظرت إلى صغارها ثم طارت نحو الأفق البعيد، هي رحلة مشوقة تمضيها كل يوم بحثا عن طعام يسد رمق الصغار، تعلقت عيناي بها إلى أن اختفت خلف الغيوم الرمادية.
عدت إلى العش القريب، ابتسمت كثيرا، بينما العصافير التي لم ينبت ريشها بعد تلهو على طريقة الكبار، أصواتها تملأ المكان، كانت فرحة كما أوراق شجرة الكينا الماكثة جنب النافذة .
- هيا أيها الصغير ... تعال إلي ...
- لا يا سيدي ... بيتي هنا ولا أحب أن أتركه ...
- وأنا انتظر عودة أمي ... فلا تتدخل بشؤوننا أيها الرجل ...
- أكمل فنجانك وانصرف، أو لا تكمله أفضل ... انصرف الآن ودعنا نتابع لهونا ...
ضحكت أكثر، ما أجمله من حوار، خال من غبار الزمن والغدر والخطيئة، رضخت لمشيئة الصغار وانصرفت على أمل اللقاء المسائي .
بعد ظهيرة ذاك اليوم ثارت الرياح، الزوابع تكاد تلامس السماء، الرمال تضرب كل ما يواجهها، أما الغبار فكان يروي حكايته مع المغادرين ، فجأة قفزت إلى ذاكرتي العرجاء تلك العصفورة ، وأبنائهاالأربعة .
- كيف ستعود والرياح الغليظة تحارب على جبهة جنوبية ...
- لا بد من أنها ستجد طريقة ما كي تعود ... وربما تسكت الرياح وينجلي الغبار ...
كنت أحدث نفسي وأنا في طريق العودة إلى بيتي .
دون أن أخلع ملابسي، ذهبت مسرعا إلى النافذة، فتحتها بقسوة وعجلة حتى كادت أن تنكسر، نظرت إلى العش، لم أر الصغار، اختفوا بين عيدان القش، أحدهم كان يمد رأسه الصغير ( الأصلع ) بين فينة وأخرى، ينظر إلى الأفق، يزقزق بصوت مرتعد، ثم يختبئ مع إخوته بين القش المتطاير مع الرياح .
- آه ... يارب ... احم تلك العصفورة ... وأعدها إلى صغارها ...
سمعت قهقهات تنطلق من العش، لقد سمعني الصغار ، فضحكت أنا أيضا معهم، لكنها كانت ضحكة من الثغر فقط .
تراخت الزوابع قليلا، بشرى جميلة تأتي من رحم السماء المكفهرة، الغبار بدا ينحسر رويدا رويدا ... وأنا مازلت أراقب من خلف زجاج النافذة، أغصان شجرة الكينا تلطم وجنة نافذتي، السكون يلتقط أنفاسه بعد طول عناء .
- ها هي ... هاهي ... لقد ظهرت من خلف تلك الرابية ...
قفز الصغار دفعة واحدة، نظروا إلى الرابية، وإلي، عناق من نوع آخر بين الأربعة .
وأخيرا حطت العصفورة على طرف العش، كان ريشها منفوشا، مغبرا، وثغرها خاو من أي شيء .
- الحمد لله أنها عادت سالمة ... سوف تتدبر أمر الطعام ... قلت في سري .
حاولت أن أترك النافذة، لكن شيئا ما منعني من المغادرة .
كانت الشمس تميل نحو عشها الأثير، صراخ العصافير يتعالى، مشكلة مع الأم ، لعله الجوع والبطون الخاوية .
في تلك اللحظة كان باشق يعبر من فوقنا، كان مرتفعا بشكل طفيف، شاهد رجل يسدد بندقيته صوبه، عرف بأنه المقصود، انخفض أكثر متخفيا وراء أكمة الأشجار المجاورة، انطلقت الرصاصة، قلبي كان يخفق، رمى الباشق أشياء كانت بمخالبه، سقطت فوق جاري العش، التقطت الأم الهدية، نظرت إلى الباشق ...
- إنه بخير ... لم تصبه الرصاصة ... ربما كان الصياد هاويا أو أنه لا يجيد التصويب ...
فجأة تلاقت نظراتنا جميعا، العصفورة وأبنائها، الباشق، الصياد، وأنا ... ثلاثة منا تعالت ضحكاتهم، بينما الرابع انزوى خجلا وتوارى عن أعيننا ... ( يالك من صياد أحمق ) ... قلت في نفسي ...
------------
وليد.ع.العايش
٧/رمضان/ ١٤٣٩
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق