الثلاثاء، 27 فبراير 2018

بلا سبب .. قصة قصيرة .. للأستاذ/ محمد فتحي المقداد

بلا سبب..
قصة قصيرة
بقلم – محمد فتحي المقداد
بعد مكوثه في الانفراديّة لعدّة أيّام، لم يطرق بابه الموصد دونه إلا ذاك العسكريّ، فاقتاده إلى مكاتب الفرع في الطابق الأعلى، أضواء تنير الممرات النظيفة الأنيقة بدهانها اللمّاع.
أدخله إلى مكتب في نهاية الممر، قرع الباب، ولمّا يأته إذن بالدخول، بعد انتظار لنصف دقيقة آو أكثر، حرّك قبضة الباب للأسفل فانفتح، أمر السّجين المطمّش العينين بالوقوف خلف الباب ووجهه باتجاه الحائط، بينما يديه مكلبلتيْن وراء ظهره، نفّذ بصمت اعتاده على مدار الأشهر الأربعة التي انقضت على اعتقاله، تركه العسكريّ وخرج من المكتب.
ربع ساعة في خلوته واقفًا بانتظار القادم المجهول، هواجسه لم تأل التوقف عن الذهاب به بعيدًا موغلة في تخمينات كانت مخيفة له قبل ذلك، أمّا الآن بعد اعتقاله فقد اعتاد المفاجآت غير المتوقعة المتفتّقة عن تفكير المحققين.
***
صرير الباب الفرعي في زاوية المكتب نبّهه من غفلته، صوت أجشّ آمرًا إيّاه بالتفاف عكس الحائط، نفّذ بهدوء واثقً، الصوت:
«هيّا تقدّم للأمام، أخبروني عنّك أنك كاتب وفيلسوف، أصحيحٌ ما سمعتُ؟».
توافق اهتزار من رأسي علامة الإيجاب مع كلمة خرجت من بين شفتيّ بصعوبة بالغة تتدحرج على لساني الجافّ متأثّرًا بجفاف حلقي:
«نعم..، سيدي، كما تفضّلت».
رجلي تتقدّم خطوة للأمام، ووقع خطاه أشعرني بأنّه يتّجه نحوي، الاعتماد كاملًا على حاسّة السمع في حالة التطميش التي سدًّا منيعًا يحجب رؤية كلّ ما حولي، طبعًا ما عدا الظلام والضغط المرهق على العينيْن، حواسّي استنفرت واشتدّت عضلاتي حدّ التشنّج، مُتوقّعًا صفعة على وجهي أو ركلة على مؤخرتي، أو رفسة على بطني، أو لسعة على ظهري من الكبل الرباعيّ، خارت قواي، أنفاسي توقّفت، انخفض نبضي، وبطُأت دقّات قلبي.
رائحة غريبة عن عالمي هنا، اقتحمت أنفي برفق، جعلتني أستنشق مزيدًا من الهواء لتعبئة صدري بها، رغم اختلاطها برائحة دخان سيجارة المحقق، آهٍ يا رائحة الياسمين، وأنت تستولي على مشاعري وأحاسيسي منذ صباحات شبابي أيّام الدراسة، تنبعث من أنيقة كانت مثال الذوق الرفيع، سرحتُ بعيدًا، نسيتُ نفسي في دوّامة رغبة عارمة في استحضار صورتها وألوان ثيابها، يا لتفاهة عطرك أيها الياسمين هنا، ليتني لم أستنشقك في هذا المكان القذر، وشدّة الكابوس الوحشيّ المحيط بي.
امتدّت يده -خِلتُها قطعة حجريّة باردة- فنزعت الطماشة ورمتها على الطربيزة، فاجأني الضوء الذي أتمنّاه دائمًا، فأغمضت عينيّ اتّقاء هجومه المفاجئ واقتحام مجالي بفظاظة مُزعجة، حاولت رفع يديّ، نسيت أن القيد يطوّق مِعصمَيّ.
أمرني بالاستدارة عكس الاتجاه ثانية، شدّ يديّ للخلف قليلًا شعرتُ بضيقٍ في صدري كأنّ عظامي خُلِعت من مكانها، فعالج القيد بمفتاح استخرجه من درج طاولته الخشبيّة ذات اللون البُنيّ الأنيق. قائلًا:
«أنت الآن حُرٌ وفي ضيافتي، صراحة أنا أحترم المُثقّفين من أمثالك، بإمكانك الجلوس على الكرسي أمام الطاولة».
وجدتُ أنّه يتوجّب الردّ على لطافته غير المعهودة أبدًا هنا:
«كل الشّكر والاحترام لك -سيدي- على هذا الكرم». تسرّب شيءٌ من إنسانيّتي المفتقدة من أربعة أشهر، رغم جلسات التعذيب المترافقة مع التّحقيق لم أعرف سبب اعتقالي حتّى هذه اللّحظة، لم أتوقّف طيلة هذه الفترة عن استذكار أدقّ تفاصيل حياتي، واستحضار صفحاتي منذ أن غادرت بطن أمّي، مما أدمى قلبي ونهشت الهواجس عضلته -قاتلها الله-، لم أرسُ على برّ الأمان ما زلتُ مُبحِرًا في لُجّة عمياء على غير هُدىً من دليل أو إشارة دالّة في هذا الخِضمّ الهائل إضافة لبوصلتي تمامًا.
***
- المحقق: « تفضّل هذه السيجارة، وسأطلب لك فنجان قهوة».
-: «كل الشكر».
- المحقق: «منذ فترة قرأت عبارة في كتاب، للكلمات أحقيّةٌ أن تُقال في البداية. ما رأيك بهذه المقولة؟».
- تساءلتُ باستغراب: «في أيّ بداية تقصد؟».
- المحقق: «من الممكن أن يكون ذلك في مقدّمة كتاب، أو في أول الحديث، أو عند الاعتراف، أو الاحتضار، أو .... أو .... إلخ..».
دهشة تلبّستني من كلامه الذي نقلني بمفاجأته إلى مكتبتي الحزينة على فراقي، حقيقة لم أكن أتوقّع هذا الحديث أن يدور في مثل هذا المكان الذي تتجمّد فيه الكلمات على ألسنة أمثالي، وتذوي أفكارهم وتدفن في مقبرتهم، ورددتُ على تساؤله: «حتى الكلام لا ينجو من التزاحم والتنافس على التقدّم على غيره من بني جنسه..!!». في اللحظة الحاسمة استدركتُ، و حبست الجزء الآخر من كلامي في نفسي: « وما تزاحم المخبرين على كلامنا وتحليله وتحويله إلى تقارير، إلّا جزء من معاناتنا».
وراحت الكلمات تنفلت من بين شفتيّ، بعشوائيّة وتخبّط، كأنّما شقّت عصا الطاعة على عقالها، أثارت شهيّة المحقق لتسويد نقاء الصفحات ممّا قلت، غير مكترث بتوجيه نظراته نحوي، يكتبُ ويكتبُ بحماس منقطع النظير. وانتهت الجلسة مثلما ابتدأت، مثلما اقتادوني إلى هنا، بلا معرفتي السبب.
عمّان – الأردن
23/2/2018

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق