الخميس، 19 يناير 2017

عبير الذكريات .. للقاص الكبير الأستاذ / عبدالصبور محمد الحسن

عبير الذّكريات
 لم أكن أرغب في لبس الحذاء، ولا في ارتداء البنطال ذي السّحّاب، ولا في قصّ شعري، فضلاً عن تسريحه، وأظنُّ أن رأي (عبير) كرأيي. 
 كنتُ أتمني لو أقضي كل عمري هكذا، أخرج صباحاً مع غنماتنا السّبع العجاف إلى المرعى شرقي القرية، حافياً، ببنطالي (المطيط)، بيدي عصاً بطولي، ثم أعود مساءً أسيرُ أمام القطيع ممتليء الكروش كملكٍ مظفّر.
 كانت تذهب معي إلى المرعى تلك الفتاة اليتيمة (عبير) بغنماتها الثلاث، كانت تحرق قلبي حُزناً، كيف للطفل أن يعيش بلا أبٍ! أم أنها هكذا ولدت بلا أب! لا أعرف؟
البارحة صباحاً ونحن نهمّ بالخروج إلى المرعى قالت لنا أمّها: غداً يومٌ جديدٌ لكليكما!
أعطتها (اللّفة) مع (قنينة)  الماء وغادرنا.
سألتُ عبير عن قصد أمّها؟
قالت أنها لا تعرف!
وفي اليوم التالي لم نخرج إلى المرعى.
 جرّني أبي من يدي إلى الحلاق، ثم وضعتْ أمّي رأسي في حجرها، فتّشته من القمل، حمّمتني جيداً وهي تغنّي بسعادةٍ غامرةٍ.
 وفي صباح اليوم التالي ألبستني ثياباً جديدةً، سرّحتْ شعري، وضعتْ لي عطراً من زجاجةٍ قديمةٍ، ثمّ أمرتني بالذّهاب إلى بيت أم عبير التي
 كانت تنتظر على الباب وإلى جوارها ابنتها، التي بَدَتْ بضفيرتيها اللامعتين ووجهها المدور جميلةً جداً كدميةٍ في علبة، وكأنّني أراها للمرّة الأولى!
 أمسكتُها من يدها واتجهنا إلى المدرسة الابتدائيّة، أمها وأمي تراقبانا بابتسامة حتى غبنا عن النّظر. كنّا نتعثّر في الطّريق التّرابيّ، فتارةً أجرّها، وتارةً تجرّني إلى أن وصلنا عالمنا الجديد.
مرّت الأيام والسّنون مسرعةً كلمح البصر!
(عبير)، طبيبة أسنان،ٍ رقيقةٌ أنيقةٌ جداً كقرنفلة.
 أذكّرها بخوفها عندما وَلَدَتْ إحدى غنماتها في المرعى، وتُذكّرني كم تعثرتُ بحذائي في اليوم الأول للمدرسة، وأنا أشرب القهوة الصّباحيّة، وأراقبها وهي تسرِّح شعر طفلنا الصّغير استعداداً للذّهاب إلى المدرسة.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق