( امرأة لا تبيع )
------------
السوق ينحني بكتفه على ضفة النهر ، بعض أغصان تتشابك بين شارع ترابي هرم وتطاول أبنية قرميدية ، ركن أبو فارس دراجته التراثية على طرف زاوية ، ولج إلى أزقة السوق بعينين حادتين ، كان المطر قد بدأ يرتدي ثوبه ، وصفعات البرق تنسج لوحة مزركشة مع قرميد وأغصان خضر .
- ماذا تبيع يارجل ؟
- خضار منوعة ، ألا ترى ...
رمقه البائع بنظرة مشبعة برائحة احتقار ، تابع الرجل مسيره بين سراديب سوق لم يدخله من قبل ، أمست حبات المطر تتساقط من لحيته البيضاء ، بينما كان قميصه الرث يبدل لونه كما حرباء في غابة متوحشة ، كان يفتش عن شيء ما ، عد نقوده أكثر من مرة ( تكفي ... تكفي ) قال لنفسه ، المطر أصبح أكثر سطوة ، الباعة يغتالون عرباتهم ، ضجيج السوق لم تنهكه أصداء الرعد ، جولة أخرى من التفتيش الذي أمسى أصعب منذ لحظات ، يسأل هذا ، ينهر ذاك ، يبتسم حينا ، يتجهم أحيانا أخرى ، أشعل فتيل سيجارته المهترئة ، نفث دخانها الممتزج بمطر مازال حاضرا ، ( أين أجدها ... ) ، لم يمتحنه اليأس حتى اللحظة ، لحيته مازالت تمطر ، انزوى إلى طرف حائط طيني ، ربما كان يبحث عن بعض الدفئ .
- تعال إلى هنا يارجل .
كان المتكلم بائع جوال بلغ عقده السابع ، وربما يزيد ، تململ أبو فارس قبل أن يتجه صوبه ، مسح رأسه بمنديله الأسود ، ولم ينس أن يمسح شفتيه .
- ماذا تبيع يارجل ...
- كل ما تريد ، ماطلبك ؟ ...
صمت أبو فارس هذه المرة ، لم يرد البوح بمطلبه ، صعدت الكلمات لحنجرته أكثر من مرة ، ثم عادت أدراجها إلى أعماقه الأبدية .
- لا شيء ، لا شيء ...
أشاح عن البائع مقررا المغادرة ، أشعل آخر سيجاراته ، دارت الأفكار كما رحى طاحون ، المطر ينحسر بتأني ، بعض الباعة تركوا السوق لتوهم ، توقف عن التنفس ، نظر إلى البائع السبعيني الذي كان منشغلا بصف خضاره التي غسلها المطر ...
- هيه ... انظر ، أبحث عن امرأة لا تبيع ...
سقطت التفاحة الموردة من بين أصابع البائع ، ذهول انتاب أوصاله ، أبو فارس يمتطي سرج دراجته الأثرية ، وطرف عينه لم يفارق ذاك السبعيني يحترق بما سمع ، ( يريد امرأة لا تبيع ) ... ربما أصابه مس من الجنون ، على زاوية رصيف قريب كانت امرأة حبلى بالسنوات تصغي للحديث ، أومأت للبائع بصوت خافت : ( من الذي مسه الجنون ) ، طرقت حرف الرصيف بقدمها وغادرت ...
_______
وليد.ع.العايش
15/1/20166م
------------
السوق ينحني بكتفه على ضفة النهر ، بعض أغصان تتشابك بين شارع ترابي هرم وتطاول أبنية قرميدية ، ركن أبو فارس دراجته التراثية على طرف زاوية ، ولج إلى أزقة السوق بعينين حادتين ، كان المطر قد بدأ يرتدي ثوبه ، وصفعات البرق تنسج لوحة مزركشة مع قرميد وأغصان خضر .
- ماذا تبيع يارجل ؟
- خضار منوعة ، ألا ترى ...
رمقه البائع بنظرة مشبعة برائحة احتقار ، تابع الرجل مسيره بين سراديب سوق لم يدخله من قبل ، أمست حبات المطر تتساقط من لحيته البيضاء ، بينما كان قميصه الرث يبدل لونه كما حرباء في غابة متوحشة ، كان يفتش عن شيء ما ، عد نقوده أكثر من مرة ( تكفي ... تكفي ) قال لنفسه ، المطر أصبح أكثر سطوة ، الباعة يغتالون عرباتهم ، ضجيج السوق لم تنهكه أصداء الرعد ، جولة أخرى من التفتيش الذي أمسى أصعب منذ لحظات ، يسأل هذا ، ينهر ذاك ، يبتسم حينا ، يتجهم أحيانا أخرى ، أشعل فتيل سيجارته المهترئة ، نفث دخانها الممتزج بمطر مازال حاضرا ، ( أين أجدها ... ) ، لم يمتحنه اليأس حتى اللحظة ، لحيته مازالت تمطر ، انزوى إلى طرف حائط طيني ، ربما كان يبحث عن بعض الدفئ .
- تعال إلى هنا يارجل .
كان المتكلم بائع جوال بلغ عقده السابع ، وربما يزيد ، تململ أبو فارس قبل أن يتجه صوبه ، مسح رأسه بمنديله الأسود ، ولم ينس أن يمسح شفتيه .
- ماذا تبيع يارجل ...
- كل ما تريد ، ماطلبك ؟ ...
صمت أبو فارس هذه المرة ، لم يرد البوح بمطلبه ، صعدت الكلمات لحنجرته أكثر من مرة ، ثم عادت أدراجها إلى أعماقه الأبدية .
- لا شيء ، لا شيء ...
أشاح عن البائع مقررا المغادرة ، أشعل آخر سيجاراته ، دارت الأفكار كما رحى طاحون ، المطر ينحسر بتأني ، بعض الباعة تركوا السوق لتوهم ، توقف عن التنفس ، نظر إلى البائع السبعيني الذي كان منشغلا بصف خضاره التي غسلها المطر ...
- هيه ... انظر ، أبحث عن امرأة لا تبيع ...
سقطت التفاحة الموردة من بين أصابع البائع ، ذهول انتاب أوصاله ، أبو فارس يمتطي سرج دراجته الأثرية ، وطرف عينه لم يفارق ذاك السبعيني يحترق بما سمع ، ( يريد امرأة لا تبيع ) ... ربما أصابه مس من الجنون ، على زاوية رصيف قريب كانت امرأة حبلى بالسنوات تصغي للحديث ، أومأت للبائع بصوت خافت : ( من الذي مسه الجنون ) ، طرقت حرف الرصيف بقدمها وغادرت ...
_______
وليد.ع.العايش
15/1/20166م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق