رحلة الإنسان
عندما مت،ُّ ذرف أهلي وأصدقائي عليّ الكثير من الدّموع، ثمّ واروني تحت التّراب ومضوا.
تركوني لمصيري المحتوم، إذ صعدتْ روحي إلى السّماء تحمل ما قدّمته يداي، أمّا جسدي، فقد أخذ يغور في أعماق الأرض شيئا فشيئا حتّى وصلتُ إلى طبقة جيولوجيّة قال لي سكّانها عن اسمها، ولكنّني نسيته بسبب ذاكرتي المثقّبة.
هناك في أعماق الأرض، كان الضّغط والحرارة كبيرين جدّا، حتّى أنّ جسدي ذاب مع أجساد الدّيناصورات.
تحت هذه الظروف القاسية، أخذت خلاياي تتحوّل إلى سائل لزج أسود برائحة غريبة، لابد وأنّه النّفط الخام الذي قرأت عنه يوما.
فجأة نزل فوقي أنبوب معدنيّ غليظ، مصحوب بضغط سلبيّ، سحبني إلى وجه الأرض ثانية، إلى داخل برميل أزرق، كان معي في البرميل ديناصور صغير مجنّح.
سافرنا على ظهر باخرة في رحلة عبر أعالي البحار، لم أعلم أنّني كمواطن عربيّ لي قيمة إلا عندما صرتُ نفطا خاما، فقد بدأ الجميع يتقاتل عليّ وعلى سعري، وبدأتْ مقارنتي مع أنواع النّفط الأخرى من حيث جودتي بالمقارنة مع سعري الزّهيد.
انتهى بي المطاف بعد رحلة طويلة في البحار والأسواق في مصفاة للنفط في أوربا، في المصفاة شاهدت ديكتاتورا جعلوا منه شحما للمسنّنات والجنازير التي تسير عليها، كنت أسمع صراخه وعويله عندما يأتي بين المسنّن والجنزير، كم هي عظيمة حكمة الله.
أما رفيق الرّحلة وشريكي في البرميل -الدّيناصور المجنّح- فقد صار وقودا للطّائرات، أما أنا فصرت مادّة أوليّة لصنع الإطارات.
شكّلوني في أحد المعامل إطارا لجرّار زراعيّ، اشتراني مزارع في الرّيف الإنكليزيّ يدعى السّيّد (رالف) ، في الحقيقة كانت تلك الأيّام التي قضيتها كإطار في جرّار السّيّد رالف أجمل أيّام حياتي، فقد كان يعاملني بلطف، فلا يحمّل الجرّار أو يشدّ به فوق طاقته، ناهيك عن حرصه على بقائي نظيفا على الدّوام.
ولحسّه العالي، فقد باعني لسوق الإطارات المستعملة وأنا في أوج شبابي، قبل أن أصل إلى مرحلة الهرم.
تمّ شحني من سوق الإطارات المستعملة في رحلة عودة طويلة إلى بلادي الأصليّة، حيث اشتراني أحد أحفادي كإطار مستعمل، كم هو فظ وغليظ هذا الحفيد، لم أكن أتصور أن يكون في ذرّيتي شخصا قاسيا كهذا!
لم يراعي كم كنت أعاني من النّفخة عندما كنت إنسانا! فقد ملأني بالهواء إلى أقصى حدّ ممكن حتّى أوشكت أن أنفجر، ليس هذا وحسب، بل كان يحرث الأراضي الصخريّة، ويشدّ بجرّاره عشرة أطنان من الشّوندر السّكري حتّى هرمت بسرعة كبيرة فتآكتْ تلك النّقوش البارزة على سطحي وظهرت الخيوط والأسلاك من أحشائي.
وعند وصولي لهذه الحالة باعني لصانع القفاف الذي سلخ مني شريحة كبيرة صنع منها قفّة بأذنين، ثم رمى ما لايمكن الاستفادة منه في الحاوية، فأخذني بعض الشّبان وأحرقوني في إحدى مظاهراتهم، أما حفيدي المغضوب فقد عاد واشترى القفّة ليحمل بها روث الأبقار، ثم يذهب بي إلى الحقل ليملأني بالحجارة دون رحمة.
كل هذا قبلته ورضيت به، أمّا أن يحملني من أذنيّ كما يحمل الأرانب فهذا ما لا أقبل به مطلقا!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق